كتب الرئيس عبد الفتاح السيسى تدوينة على صفحته الشخصية بمواقع التواصل الاجتماعى: «أتوجه بتحية وتقدير للفلاح المصرى فى يوم عيده، الذى نال فيه استقلاله وحريته وعزته وكرامته، وأؤكد أننا حريصون كل الحرص على دعم الفلاح، وتسخير كل الإمكانات اللازمة لتوفير حياة كريمة له، فمصر الأهرامات ومصر قناة السويس ومصر السد العالى كلها مدينة لجهد وعرق وعبقرية ملايين الفلاحين على مر الدهور». هذا ما كتبه الرئيس عبد الفتاح السيسى فى تدوينة له بمناسبة عيد الفلاح الذى نحتفل به فى التاسع من سبتمبر. بما يليق بصانع الحضارة المصرية بعصورها بعمله وعنائه. ولا أبالغ عندما أقول: لولا الفلاح ما كانت مصر. وهى تنطبق على أحوالنا.
وباعتبارى قضيت سنواتى الأولى فى قرية الضهرية مركز إيتاى البارود محافظة البحيرة. وسط الفلاحين، وتكوَّن إدراكى وأنا بينهم. فأنا أكتب سعيداً بالاحتفال بهم. فهم أحق الناس بهذا الاحتفال. وشكرا لتدوينة الرئيس التى جاءت فى وقتها. ولفئة تستحق الاهتمام. ومن شدة تعلقى بقريتنا اهتممت فى بداياتى الأولى. وما زلت حتى الآن أمام ما كُتِبَ عن القرية المصرية ابتداء من الروايات الأدبية والقصائد الشعرية وصولا للدراسات الاجتماعية التى توقفت أمام الفلاح. وتناولتها بقدر كبير من الحب والموضوعية.
كان أول أديب أتعرف عليه فى ندوة أقيمت فى قصر ثقافة دمنهور. عندما كان يرأسه المرحوم مصطفى البسيونى، وجاء محمد عبد الحليم عبد الله 3 فبراير 1913 – 30 يونيو 1970 من القاهرة، حيث كان يعيش فى حى المنيل، ويعمل فى مجمع اللغة العربية. جاء إلى دمنهور ليلتقى بجماهيره التى كانت كثيرة فى تلك الليلة البعيدة. قد تعرفت عليه بل وزرته فى قريته كفر بولين مركز كوم حمادة محافظة البحيرة أكثر من مرة. وترددت عليه فى بيته ومكتبه. لكن أهميته أنه كان أول كلمة فى حكاية طويلة عن نشوء وتولد فكرة الكتابة فى وجدانى عن القرية المصرية. وليس عن قريتى فقط. لا أريد الاستطراد طويلاً فى الكتابة عن عبد الحليم عبد الله، رغم أثره المهم فى حياتى ويستحق منى ما هو أكثر من هذه الاشارة العابرة لأنه لفت نظرى إلى ما يميز القرية عن المدينة الذى أعتبره موقفاً مبدئياً فى حياتى.
بل بفضل قراءتى له وتعرفى عليه المبكر جعلنى أردد كثيرا عبارة تاه من عقلى قائلها ومُبدعها: القرى خلقها الله، ولكن المدن بناها البشر. ربما كان صاحب هذه العبارة هو الأب هنرى عيروط اليسوعى 1907 -1969، صاحب كتاب: «الفلاحون». ومن روايات عبد الحليم عبد الله الكثيرة، وكان كاتباً غزير الإنتاج: بعد الغروب – الجنة العذراء – شمس الخريف – شجرة اللبلاب – أشياء للذاكرة – البيت الصامت – الدموع الخرساء – الضفيرة السوداء. أما الأب هنرى عيروط اليسوعى، الذى أشرت إلى أهمية كتابه: «الفلاحون»، فى تكوينى وحياتى ووعيى وإدراكى، وهو يعتبر واحدا من الرواد الأوائل الذين اهتموا بتنمية قريتنا، فهو ينتمى لعائلة من أصل سورى نزحت للقاهرة عام 1818، التحق بمدرسة العائلة المقدسة للآباء اليسوعيين بالفجالة، ثم سافر إلى فرنسا لدراسة علم الاجتماع بجامعة ليون حتى حصل على الدكتوراه، وكان عنوانها: أخلاق الفلاح وعاداته. وترجمت إلى اللغة العربية تحت مسمى: «الفلاحون»، وصدرت لأول مرة عام 1938. ونظراً لأهمية الدراسة وريادتها فى موضوعها صدرت طبعات أخرى كثيرة منها. ربما ما زالت تصدر حتى الآن.
فى رحلتى مع الفلاح المصرى توقفت أمام تجربة عبد الرحمن الشرقاوى 10 نوفمبر 1920 – 24 نوفمبر 1987. وكان من أبناء الريف، وُلِدَ فى قرية الدلاتون بمحافظة المنوفية. ومثل كل أبناء القرى بدأ رحلته التعليمية فى كُتَّاب القرية الذى كان يُحفِّظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ثم انتقل للمدارس الحكومية. روايته: «الأرض»، التى تعتبر رواية عمره، صحيح أنه كان كاتبا غزير الإنتاج متنوعاً فى الأشكال الفنية التى كتبها. لكن تظل الرواية عنوانه. و«الأرض» بمثابة نقطة جوهرية فى مسيرته الفنية. ولعل الكثيرين يتذكرون الفيلم السينمائى. من إنتاج 1970، أخرجه المخرج العبقرى: يوسف شاهين. وفى احتفالية مئوية السينما المصرية 1996 تم تصنيفه فى المركز الثانى ضمن أفضل 100 فيلم فى تاريخ السينما المصرية فى استفتاء النقاد.
وقد عُرِض الفيلم فى مهرجان كان، وكتب الناقد الفرنسى كلود ميشيل: من الضرورى أن يعرض المصريون أفلامهم فى المهرجانات، طالما أن لديهم مستوى الأرض الرفيع. وكتب الناقد الفرنسى مارسيل مارتان: أن «الأرض» فيلم ملتزم تنبع شاعريته من رسالته الثورية. وأنه يفتح المجال العالمى للسينما المصرية. وذلك الفتح الذى تأخر كثيرا. ولعبد الرحمن الشرقاوى رواية أخرى هى: «الفلاح»، لم تنل شهرة «الأرض». لكنها تؤكد اهتمامه بالقرية المصرية وسكانها من الفلاحين الذى لازمهم طوال حياته. ربما أكون قد ظلمت روائيين وقصاصين وشعراء مصريين آخرين كتبوا عن القرية المصرية. وما أكثرهم. وهذا خطأ منى. فالغالبية العظمى من المبدعين المصريين جاءوا من القرية. وكتبوا عنها كنوع من الحنين المشروع للمكان الذين رأوا الدنيا فيه. ولو استطردت أكثر من هذا فلن يكفى المقال. من المؤكد أن الروائيين والقصاصين والشعراء وكُتَّاب المسرح الذين جاءوا من القرية يشكلون الغالبية العظمى. ولا أريد أن أدخل فى جدل القرية والمدينة. فقد جاء من المدن أدباء مهمون جداً، ولم يكتبوا عن القرية لأنهم لم يعيشوا فيها.
يبقى المشروع الأمل للقرية المصرية الآن: حياة كريمة. وهو يستحق كتابة أخرى عنه من الألف إلى الياء. حياة كريمة يعيد بناء القرية من أول وجديد. ينقلها من عصر لعصر ويسابق الزمان.
لمزيد من مقالات يوسف القعيد رابط دائم: