بتاريخ 17 ديسمبر 2001, صدرت مجلة التايم الأمريكية وعنوان غلافها: الأيام الأخيرة لطالبان. كان هذا هو الحلم الأمريكى الكاذب الذى أرسى قواعده المحافظون الجدد والذين كان يقودهم ديك تشينى نائب الرئيس الأمريكي, ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ورجاله والذين أرادوها عوجا وفوضى خلاقة على حد تعبير وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس حينها, وأن هذه الفوضى ستمكنهم من إعادة كتابة التاريخ وتحقيق نظرياتهم العقيمة والتى لم تستند إلا على أساس التلفيق والعنصرية البغيضة. وجدت مجموعة المحافظين الجدد بغيتها فى الرئيس جورج بوش الذى كانوا يتحكمون فيه تحكما كاملا. ومن هنا جعلوا مسرح عملياتهم فى أفغانستان والعراق ظنا منهم أنهما أسهل بقعتين للانطلاق ونشر الفوضى منهما الى مناطق صراع أخري. أرادت أمريكا أمرا هو الوارد على صفحات وسائل إعلامها مثل مجلة التايم والاحتفال المبكر بالنصر الذى ظنت إدارة الرئيس بوش أنها حققته انتقاما للهجوم الإرهابى الذى وقع على أراضيها ونفذته القاعدة التى كانت تتخذ من أفغانستان مسرحا لعملياتها ونقطة انطلاق لأعمالها الإرهابية. حكمت طالبان أفغانستان لمدة خمسة أعوام قبل 2001, ثم جاءت كارثة 11 سبتمبر 2001, بعدها ألقت أمريكا كل اللوم على طالبان التى كانت تحكم أفغانستان وأن القاعدة تربت فى عزها وخرجت منها وبالتالى لابد لأفغانستان من دفع الثمن. كان رد الفعل الأمريكى طاغيا وقاسيا وغير متناسب.
لم يك هناك انتصار حاسم ولكن كان هناك دمار غير مسبوق نتيجة القصف المستمر الذى شمل حتى جبال أفغانستان. بدأ كل شيء ورديا لأمريكا القوية عقب لحظة الانتصار الكاذب, ولكنها عاشت بعدها فى خسران مبين, وأصبحت تكاليف الحرب اليومية عبئا كبيرا على الاقتصاد الأمريكي, ثم بدا لها من بعد ذلك أن الأفغان يستعصون على الهزيمة وأنها فى طريقها لنيل ما نالته كل من بريطانيا والاتحاد السوفيتى من قبل, فقررت التفاوض والخروج السريع فى عهد الرئيس ترامب والتزم به الرئيس بايدن من بعده. أرادت أمريكا خروجا سهلا وأراد الله أمرا آخر. كان منظر الاستيلاء على كابول العاصمة شبيها بالفصل النهائى لهزيمة فيتنام.
نفس التفاصيل التى حدثت بالتمام والكمال وكأنه شريط سينمائى يعاد عرضه هذه المرة فى أفغانستان. اجتياح كل محافظات أفغانستان استنساخا لماض تمنت أمريكا نسيانه, هزيمة ثقيلة تفوق الهزيمة التى حاقت بها فى فيتنام مئة ضعف على حد تقدير الخبراء. كانت فاتورة تلك الحرب الخاسرة باهظة على جميع الأطراف. طبقا لآخر التقديرات التى أوردتها الآسوشيتدبرس: بلغ عدد القتلى العسكريين الأمريكيين 2448, إضافة لـ3846 من المتعاقدين. وبلغت خسائر حلف شمال الأطلنطى 1144 جنديا. بالمقارنة بلغت الخسائر الأفغانيه 66000 من العسكريين والشرطة, إضافة الى 47245 مدنيا. كما خسرت طالبان 51191 من رجالها. قتل أيضا 72 صحفيا و444 عاملا فى مجال المنظمات الإنسانية.
إضافة الى ذلك كانت هناك تكاليف مادية أمريكية بلغت تريليونى دولار. كانت هزيمة ثقيلة أيضا على بريطانيا التى شاركت فى الحرب منذ اليوم الأول لها وناصرت أمريكا فى السر والعلن. بلغت الخسائر البريطانية 37 مليار جنيه إسترليني, أى ما يعادل 2000 جنيه إسترلينى لكل أسرة, إضافة الى مقتل 453 جنديا بريطانيا. إنها نهاية حرب استمرت عشرين عاما حبطت فيها أعمال كل من الدولتين, وأن كل ما فعلوه عبر عشرين سنة تمت معادلته خلال عشرة أيام اجتاحت خلالها طالبان أفغانستان بالكامل. إنها الأزمة الكبرى التى أصبح يواجهها بايدن والتى حتما ستلقى بظلالها على رئاسته.صار الأمر صادما للشعب الأمريكى الذى هاله ما يشاهده على شاشات التليفزيون وكأنه فيلم مرعب يعيد الى ذاكرتهم مناظر نهاية الحرب الفيتنامية والتى جعلته ينكمش ويتقوقع ويدخل قمقما حينها ولم يخرج منه إلا على مضض فى حرب الخليج الأولى على يد الرئيس جورج بوش الأب الذى أقنعهم بضرورة الخروج من القمقم من باب المصالح والمنافع وأنه لا يذهب الى الحرب وحده ولكنه يذهب ومعه حلفاء ومشاركون بالرجال والمال والعتاد.
رغم أن قرار الانسحاب من أفغانستان كان يحظى بموافقة غالبية الشعب الأمريكي, فإن هناك بوادر تدل على عكس ذلك وأن دلائل الهزيمة ومنظر الفوضى العارمة فى مطار كابول وعجز أمريكا على تنفيذ عملية جلاء رعاياهاوعملية تخليص الإجراءات الخاصة بالأفغان الذين كانت تستخدمهم القوات الأمريكية كمترجمين وسائقين وجواسيس والذين يبلغ عددهم ثلاثمائة ألف طبقا لما أوردته صحيفة الجارديان بتاريخ 20 أغسطس, تم تجنيدهم عبر العشرين عاما للوجود الأمريكي. حتى ولو أن أمريكا نجحت فى ترحيلهم من أفغانستان فإن عملية قبولهم كمهاجرين الى أمريكا لن ترضى الكثيرين من المحافظين فيها, الذين يرغبون فى تقليص الأعداد المهاجرة.
مع مطلع يوم الحادى والثلاثين من أغسطس أعلن وزير الخارجية الأمريكى نهاية الوجود الأمريكى فى أفغانستان, كما أعلن قائد القوات الأمريكية فى أفغانستان نهاية أطول حرب خاضتها أمريكا. هو يوم هزيمة حقيقية ونفسية لأكبر قوة فى العصر الحديث شهدها العالم كله على الهواء. بعدها مباشرة دخل قادة طالبان مطار كابول ليتفقدوا أحواله وهم يحتفلون بالنصر وبأن إصرارهم على وضع خط أحمر لخروج الأمريكان كان أمرا فارقا رضخت له أمريكا ونفذته عن يد وهى صاغرة. الأمل معقود الآن على طالبان ألا تجعل من أفغانستان الجديدة ملاذا للإرهاب وأن تنتهز الفرصة للبناء الحقيقى وللتنمية فى بلد أنعم الله عليه بثروات طبيعية لا مثيل لها. الأمل معقود أيضا على أن يمد العالم الإسلامى كله يده لأفغانستان الجديدة وأن تقود مصر تلك العملية.
لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى جودة رابط دائم: