إذا أردت أن تعرف من هو أنور المعداوى فاسأل عنه من تعرفهم ممن عرفوه وهم كثيرون، وفيهم أعلام مشاهير كانوا يتحلقون حوله فى ندوته المسائية التى كانت تعقد فى مقهى «الكمال» فى ميدان الجيزة، وكانت علامة مضيئة من علامات القاهرة فى خمسينيات القرن الماضى. والمشكلة التى ستواجهك أيها القارئ العزيز فى سعيك للتعرف على أنور المعداوى الآن هى أن معظم أصدقائه وتلاميذه وأركان ندوته رحلوا كما رحل هو قبلهم. لأنى أتحدث عن رجل ولد فى العام العشرين من القرن الذى مضى. وبهذه المناسبة، مرور الذكرى المئوية الأولى لمولده، أكتب هذه المقالة. ومن البديهى أن أصدقاءه وأركان دولته وحتى تلاميذه كانوا فى العشرين أو بعدها أو قبلها. من هؤلاء وهؤلاء الدكتور عبد القادر القط أستاذ الأدب العربى فى جامعة عين شمس وهو ناقد وشاعر، والشاعر محمود حسن إسماعيل، والكاتب زكريا الحجاوي، والناقد رجاء النقاش وله كتاب عن أنور المعداوى عنوانه «صفحات مجهولة فى الأدب العربى الحديث»، والدكتور عبد المحسن طه بدر الأستاذ فى جامعة القاهرة، وأحيانا الكاتب الصحفى الساخر محمود السعدنى، والدكتور سمير سرحان أستاذ الأدب الإنجليزي، والكاتب على شلش وله هو الآخر كتاب عن أستاذه بعنوان «أنور المعداوى»، والناقد عباس خضر، والمحامى عبد الحميد قطامش، وآخرون كثيرون ممن كانوا ينزلون ضيوفا على الندوة دون أن يصبحوا أعضاء دائمين، وكان من هؤلاء شعراء وكتاب شوام وعراقيون ومغاربة.
وأنا أيضا كنت من حضور هذه الندوة التى كانت عونا لى فى أيامى الأولى فى القاهرة. فعن طريقها اشتغلت فى الصحافة، وفيها تعرفت على الصديق الأثير الراحل رجاء النقاش الذى تحمس لشعرى وكتب مقدمة ديوانى الأول «مدينة بلا قلب». كما تعرفت على بقية روادها وفزت بصداقتهم.
>>>
لكنى أكتب هذه المقالة عن أنور المعداوى وأتحدث عمن تحدثت عنهم لأعرف الذين لا يعرفونه من أبناء الأجيال الجديدة بهذا الرجل الذى لا أكتب عنه بوصفه مجرد موضوع صالح لكتابة مقالة، وإنما أؤدى واجبا نحو قيمة أدبية وأخلاقية رفيعة أصبحت للأسف منسية أو تكاد، رغم أنها كانت موضوعا لعدة كتب أشرت لاثنين منها فيما سبق عدا المقالات التى تحتاج لمن يجمعها وينشرها فى كتاب.
وقد أشرت من قبل للعام الذى ولد فيه المعداوى ولم يكن عاما ككل الأعوام، وإنما كان ذروة من الذرى التى بلغتها الحركة الوطنية المصرية وحققت فيها مصر استقلالها، وبنت دولتها، وأصدرت دستورها، وأبدعت فيها ما أبدعته فى الأدب والفن والفكر والعلم. فى هذه النهضة التى استيقظت فيها مصر كلها ومما تحقق فيها ولد أنور المعداوى فى قرية «معدية مهدى» شمال غرب الدلتا وشب ونما وبلغ قمة نضجه فى الأربعينيات الأخيرة من القرن الماضى بعد أن أكمل دراسته للأدب العربى فى جامعة القاهرة حيث توثقت علاقته بعدد من أساتذته وزملائه، وفى مقدمتهم الأستاذ أمين الخولى الذى ظل المعداوى مواظبا على حضور ندوته إضافة إلى ندوة طه حسين وندوة العقاد. وأما نشاطه الأدبى فقد بدأه بعد عامين من تخرجه فى مجلة «الرسالة» التى كان يصدرها أحمد حسن الزيات وكانت منذ صدورها فى العام الثالث والثلاثين من القرن الماضى أهم منبر ثقافى فى مصر وفى كل الأقطار العربية. وعن طريقها تعرفت على أنور المعداوى الذى أصبح واحدا من أشهر النقاد المصريين، وفى هذا يقول رجاء النقاش فى كتابه عنه «فى الفترة ما بين 1948 و 1952 لمع اسم المعداوى بسرعة كبيرة، وأصبح خلال وقت قصير، ودون أى مبالغة، أكبر ناقد أدبى فى الوطن العربى كله فى تلك الفترة التى تبلغ أربع سنوات متصلة». وكنت أبدأ به قراءة العدد لأستمتع بلغته الجميلة الراقية، وبلفتاته الذكية، وحواره اليقظ الخصب مع الثقافة المصرية كما كانت فى تلك الأيام حتى توقفت المجلة عن الصدور فى العام الثالث والخمسين، لأن نفقات إصدارها زادت فى الوقت الذى تراجع فيه العائد من توزيعها فى السوق. ومما قيل تفسيرا لتراجع العائد واحتجاب المجلة إن وزير المعارف آنذاك أصدر قرارا بالتوقف عن شراء النسخ التى كانت الوزارة تشتريها لتزود بها مكتبات المدارس. وكان الوزير يعبر بهذا القرار - لو صح أنه أصدره - عن موقف من المواد التى كانت تنشرها المجلة دون أن تعرف الوزارة شيئا عن محتواها. وفى العام الذى وقفت فيه »الرسالة« عن الصدور نظمت أول قصيدة تنشر لي. وكم كنت أتمنى أن أنشرها فى «الرسالة» التى احتجبت، لكنها نشرت بعد عامين فى «الرسالة الجديدة» التى أصدرها يوسف السباعى وسماها هذا الاسم لتعتبر امتدادا «للرسالة» الأولى ولترث بالتالى كتابها وقراءها. وعن طريق «الرسالة الجديدة» وما نشر لى فيها بدأت صلتى بالحركة الثقافية المصرية وبندوة المعداوى حتى صارت ساحته العامرة التى يلتقى فيها برفاقه وأصدقائه ومحبيه الذين ظلوا يتابعونه ويقرأون ما ينشر له بين حين وحين فى المجلات المصرية والعربية.
>>>
وأنت تقرأ المعداوى فيما كتبه عن شعر على محمود طه وفدوى طوقان، وعن روايات نجيب محفوظ وقصص محمد أبو المعاطى أبو النجا ستشدك لغته، ليس فقط بما فيها من دقة فى تصوير ما تلقاه من النص الذى يتحدث عنه المعداوى ومن مهارة فى صياغة العبارة تتحول بها المقالة النقدية إلى عمل فنى ممتع، وإنما تشدك لغة المعداوى بما تلمسه فيها من صدق ينجح به فى الانتقال بك لعالمه ومشاركتك إياه فيما يراه، أو اقناعك بالإنصات له والدخول معه فى حوار مفتوح.
هذا الصدق كان المعداوى يلمسه فى نفسه ويستمد منه الثقة بما يراه ويحسه وينفعل به، ويعتبره منهجا خاصا يتميز به عن غيره من النقاد ويسميه «الأداء النفسى» الذى يتميز عن الأداء اللفظي. الأداء اللفظى تسجيل أو تقرير أو وصف لما تراه العين وتسمعه الأذن. أما الأداء النفسى فهو تحويل ما يصل إلى الشاعر أو الكاتب إلى رسالة يتلقاها بانفعال ويمزج فيها بين العناصر الأولى التى تلقاها وما أثارته فى نفسه هذه العناصر وأيقظته من ذكريات وملكات وتجارب تتحول بها الرسالة إلى عمل فنى يقدمه الشاعر أو الكاتب للقارئ بعد أن يطمئن لما تحقق فيه من جمال وتكامل واستقلال وطاقة روحية وجاذبية وإثارة.
لمزيد من مقالات بقلم ـ أحمد عبدالمعطى حجازى رابط دائم: