رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

تلك الأيام
الزمر والعالم.. زوربا والفليسوف

الزمر هو علاء الزمر زميلنا بالأهرام، والعالم هو محمود أمين العالم المفكر الراحل.. كان الزمر يغطى ندوة للعالم، وجلس فى الصف الأول لكنه أحس أن الكلام الذى يقال على المنصة ثقيل على عقله وقلبه، فقام من مكانه، وذهب يجلس فى مكان بعيد، وفوجئ بالدكتور محمود أمين العالم بعد الندوة يجلس بجانبه، ويقول له: إيه رأيك فى الندوة؟!.

رد علاء الزمر: أرزاق!.

فقال له العالم مندهشا: يعنى إيه؟.

قال الزمر، وكان ينظر من الشرفة: انظر إلى هذه السيارة المحملة بالطوب الأحمر، هذا الطوب تم عمله فى مصنع واحد، وحملته سيارة واحدة، وربما ينقلهم عامل واحد، ورغم ذلك هناك قالب طوب سوف يتم وضعه فى مسجد مكان قبلة الصلاة، يصلى الناس أمامه، وقد يمسحون عليه بأيديهم، وهناك قالب آخر سوف يذهب إلى دورة المياه، يتبرز عليه الناس، وهكذا نحن مجرد قوالب.

اندهش العالم، وقال له: هذا الموضوع أرهق الفلاسفة على مر التاريخ، ولم يصلوا إلى هذا العمق، من أين أتيت به؟!.

قال الزمر: من فم عامل طوب فى بلدنا عندما شاهدنى مندهشا من مصير كلاب الفنانة مريم فخر الدين.

سأل العالم: إيه حكاية كلاب مريم فخر الدين؟!.

قال الزمر: كان للفنانة مريم فخر الدين كلبة انجبت خمسة كلاب، وزعت ثلاثة وتبقى اثنان، وطلبت منى أن آخذ احدهما، وأترك الآخر للفنانة ليلى طاهر، فذهبت ورحت أقف حائرا، ايهما أختار، وأخذت احدهما، وارسلته إلى بلدنا «قرية ناهيا» وهناك وضعوه على السطح، وعاملوه معاملة الكلاب، يعطونه بقايا الطعام «عيش طبيخ ملوخية» حتى اصابه الاكتئاب، ورمى بنفسه من السطح، فوقع على سيخ السور الذى يحيط بالمنزل، وعاش حياته شبه عاجز، بينما الكلب الآخر الذى أخذته الفنانة ليلى طاهر عاش فى فيلا، وله طبيب وسشوار ومواعيد للرياضة والمشى.

بعدها أصبح الزمر والعالم أصدقاء.

الحكاية ذكرتنى برواية «زوربا اليونانى» لنيكوس كازنتراكس الذى التقى حقيقة بشخص اسمه زوربا تأثر بشخصيته التلقائية العميقة الفهم للحياة، والناس، وكتب عنه روايته العظيمة «زوربا اليونانى» عن مثقف يعيش فى برج عاجى مع كتبه وفلاسفته، بينما زوربا الإنسان البسيط يدرك فلسفة الحياة ويعيشها بذكائه الفطرى سعيدا بكل ما فيها، وتنشأ بين المثقف والرجل العادى «زوربا» عامل المنجم صداقة يتعلم خلالها المثقف أشياء كثرة من زوربا وفلسفته التلقائية البسيطة، ونظرته العميقة للحياة وجمالها، رغم أنه مجرد عامل بسيط فى منجم.

تجرى الحكمة على لسان «زروبا» خلال كلامه العادى، فيقف المثقف مشدوها وهو يسمعه يقول له: إن الذين يعيشون الأسرار، كما ترى ليس لديهم وقت للكتابة، وجميع الذين عندهم وقت، لا يعيشون الأسرار.

ويحكى له قائلا: ذات مرة اشتغلت فخارا، ولقد أحببت هذه المهنة كالمجنون! اتعرف معنى أن تأخذ كمية من الطين وتصنع منها ما تريد؟ يدور الطين كالمسوس، وتقف أنت وتقول: سأصنع جرة.. ساصنع قنديلا.. وكل ما تريد مهما كان.. هذا ما يجعلك إنسانا.. الحرية.

السعادة تكمن فى قلب بسيط وحياة معتدلة، مشكلة البشر أنهم لا يعرفون أبدا ما يريدون.

أو يقول له فجأة: كل شبر فى الأرض هو قبر ويمكنك أن تسمع أنين الموتى، وأن اعترافنا بالذنب هو نصف المغفرة، لا صلب بدون يهوذا ولا قيامة بدون صلب.

المثقف يسمع زوربا روح العالم، وهو يقول له: كيف يمكن لأحد أن يكون سعيدا: فى هذا الجسد المسكين، وفى هذا الخليط من الدماء والعظام واللحم والمخاط والعرق والدموع؟ كيف يمكن لأحد أن يكون سعيدا فى هذا الجسد المحكوم بالحسد والكراهية والكذب والخوف والألم والجوع والعطش والمرض والشيخوخة والموت؟!.

الأشياء كلها ــ النباتات والحيوانات والحشرات والوحوش والبشر ــ تتقدم نحو الفناء، انظر خلفك إلى أولئك الذين لم يعودوا موجودين، وانظر امامك إلى الذين لم يولدوا بعد، ينضج الناس مثل القمح، ويتساقطون مثله وينبتون من جديد.

وعبقرية زوربا أنه كان يقابل الحزن مثلما يقابل الفرح، بنفس رقصته الشهيرة.. كان يرقص حزينا، ويرقص فرحا فى توحد عجيب مع مصيره، وما تهبه الأقدار من عطايا.

يظل زوربا طوال رحلة علاقته الممتدة مع صديقه يعلمه الحياة الحقة فى بساطة وعمق يقف أمامها المفكر ذاهلا.

شخصية زوربا أو عامل البناء أو الفلاح فى بلادنا نوع من البشر يملكون فهما فطريا للكون والمصائر والأقدار، فالبذرة التى تحيا وتنمو وتموت علمت الفلاح فلسفة الوجود، وهو نفس ما تعلمه العامل البسيط من مصير قوالب الطوب.

فلكل شىء حياة وموت، والحكمة موجودة أمامنا فى كل شىء، وعلى أولئك الذين لا يجدونها، أن يبحثوا عنها فى باطن الكتب والفكر والفلسفة، ورغم ذلك أحيانا يجدونها وأحيانا تتهوه بهم السبل.


لمزيد من مقالات محسن عبدالعزيز

رابط دائم: