«ما الدنيا إلا مسرح كبير»، وما كرة القدم أيضا إلا مسرح لذيذ ومثير، يعبر فيه كل مجتمع عن هويته وحضارته، فإذا كان مسرحا أنيقا، ويقف على خشبته ممثلون عظام، قدم فنا راقيا، وإذا كان مسرحا رثا فوضويا، وقف عليه أنصاف الموهوبين والكومبارس، قدم هزلا، أو مسخرة.
فى لقاء سابق مع السفير البريطانى جيفرى آدامز، وهو محب لمصر، وتربى فيها، ومشجع للأرسنال، كنا نتحدث عن «صلاح» وتألقه المبهر فى إنجلترا، وكيف نجح فى تغيير الصورة النمطية لدى الإنجليز عن العرب والإسلام، فقال لى «هذا ما نريده بالفعل من الدورى الإنجليزي».
آدامز، الذى تقاعد حاليا، كان يجيب عن سؤالين، أحدهما سياسى، والثانى رياضى، والإثنان لا علاقة لكل منهما بالآخر، أما الأول، فكان «لماذا تصر لندن على استضافة بعض الأشخاص غير المرغوب فيهم على أراضيها والملاحقين أمنيا وسياسيا من دول كثيرة»؟ والثانى كان «لماذا يعد الدورى الإنجليزى هو الأقوى والأشهر والأمتع عالميا»؟
الإجابة أوضحت لى أن هناك رؤية أو Vision واسعة جدا، بل أوسع مما نتخيل، فإنجلترا اختارت منذ قديم الأزل أن تكون لندن تحديدا مدينة «دولية» أو عالمية، عاصمة للسياسة والمال والأعمال واللغة والتعليم والإعلام، وحتى لحساب الزمن، ولأشياء أخرى، من بينها استضافة «مطاريد» العالم، أما الدورى الإنجليزى فيقوم على الرؤية نفسها، فإنجلترا هى مهد كرة القدم، والإنجليز مقتنعون بأن بلادهم هى عاصمة كرة القدم فى العالم، حتى وإن لعب كريستيانو وميسى فى إسبانيا أو إيطاليا أو فرنسا، فالدورى الإنجليزى هو الأصل، وهو «المسرح العالمى المتحد لكرة القدم»، ولذلك، فالجهات المسئولة عن كرة القدم فى بريطانيا مهمتها، أو «رؤيتها»، هى توفير مسرح عالمى، يستقطب أشهر وأفضل نجوم الكرة فى العالم، مهما كانت جنسياتهم.
الدورى الإنجليزى لا علاقة له بالمنتخب، ولا بالكرة الإنجليزية، بل هو هدف فى حد ذاته، وصناعة تدر مليارات الإسترلينى سنويا، وتجتذب ملايين السائحين أيضا، الذين يأتون من آسيا وأوروبا وأمريكا اللاتينية إلى إنجلترا لمشاهدة مباراة أو اثنتين تم حجز تذاكر لهما من خلال الإنترنت.
السفير كان يقول إن مهمة إنجلترا فقط هى توفير هذا المسرح، أو هذا «الشو العالمي»، عبر تنظيم مسابقة محترمة، بقوانين منضبطة، ومواعيد واضحة، مع استقطاب أفضل اللاعبين والمدربين، بل والمستثمرين أيضا، يعنى نسخة كروية من مبدأ «دعه يعمل دعه يمر»، مضافا إليها «دعه يلعب، ودعه يربح، ودعه يستمتع»!
نجاح صلاح ليس استثناء فى الدورى الإنجليزى، فمعظم الأندية يمتلكها أجانب، وأفضل التجارب كانت للملياردير الروسى أبراموفيتش مع تشيلسى، مع تجارب أخرى أمريكية وصينية وخليجية، ومصرية أيضا، ومعظم لاعبى الأندية أيضا من الأجانب، وهم «كريمة» اللعبة من أوروبا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا!
أما عن الأرباح فحدث ولا حرج، ففى دورى 2019، حقق ليفربول إيرادات بقيمة 152 مليون دولار من البث التليفزيونى فقط للدورى، بزيادة 1,44 مليون دولار عما حصل عليه بطل الدورى مانشستر سيتى، لأن الريدز «سرقوا الكاميرا» فى ذلك الموسم، والجميل أن هادرسفيلد «الأخير» حصل على 96,6 مليون دولار!
فى إنجلترا، دورى محترم يشكل اقتصادا متكاملا بذاته، تديره سلطة كروية قوية «فوق الجميع»، وفوق الأندية!
فى إنجلترا، جدول مباريات منتظم، لا يناقشه أحد، وحكام كالعساكر، بلا «كروش»، وبلا ابتسامات سخيفة، و»أخطاؤهم» لا تقبل الاعتراض.
فى إنجلترا، دورى تنافسى، لا يقام لكى يفوز به فريق واحد، والباقون «كومبارس»، وسماسرة، و»دلع» أى فريق كبير أو عريق يعنى الهبوط للمظاليم.
فى إنجلترا، لا «تطفيش» للاعب أو مدرب أو مستثمر إلا إذا انتهك قوانين البلاد أو «المسرح».
فى إنجلترا، لا حجج للهزيمة، ولا مبررات للفاشلين، ولا تصريحات عدائية أو استفزازية، ولا منظومات إعلامية مثيرة للأزمات والتعصب والأعصاب.
فى إنجلترا، عقوبات صارمة ضد العنصرية والوقاحة وقلة الأدب والتنمر والتشويح والتمثيل وأى تصريح «مش ولابد» أيا كان صاحبه.
فى إنجلترا، مقاعد المدرجات بالأرقام، والدخول قبل المباراة بساعة، والكاميرات تراقب الجميع، والحرمان من المشاهدة عقوبة المخالفين، والهوليجانز «اتنسفوا» من زمان.
فى إنجلترا، لا يوجد أهلى ولا زمالك ولا شيكابالا ولا عبدالحفيظ ولا ألتراس ولا شهدا ولا ماجيكو، ولا جدول الحاج «فلان»، ولا عقوبات المهندس «علان»، بل سلطة محترفة ومليارات تجرى على الأرض ومتعة للعالم بأكمله.
ألا تستحق مصر التي تملك المواهب والملاعب والجماهير «مسرحا» أفضل من ذلك؟!
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: