رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

حوار ساخن عن التحرش وتاريخه

الحوار مع الأجيال الجديدة ممتع للغاية، يشبه سباحة حرة فى بحر المعرفة، لا يمكن أن تتوقع أن يكون رقراقا هادئا دون مفاجآت، وقد دام حوارى مع طلبة من كلية الآداب ساعات طويلة، لأنهم مجموعات مختلفة، فكانت الأسئلة تعبر مسافات وتتسلق جبالا من مجموعة لمجموعة، ولفت نظرى توجع الطالبات نفسيا وبشدة من «تحرش الرجال» بهن، نضح فى عباراتهن التى وصفن فيها المجتمع وشبابه بكلمات قاسية، أشد مما قال مالك فى الخمر، لكنهن لم يجدن سببا لشيوع هذا الفعل السافل إلا قلة الأدب والتربية وانعدام الأخلاق.

قلت: أنتم دون قصد تسبون الآباء والأمهات أيضا، فهم الذين ربوا كل هؤلاء المتحرشين، بالقطع تلعب الأخلاق دورا فى صون السلوكيات الخاصة والتصرفات الشخصية من الانزلاق إلى تلك الأفعال القبيحة، لكنها ليست العنصر الوحيد والحاسم..التحرش فيه مكون تاريخى ومكون ثقافى هما الأخطر، ولا ينفرد به مجتمع سواء فى الشرق أو الغرب.

قالت: لا مقارنة بيننا وبينهم، نحن فى الحضيض الأسفل، سواء هنا أو فى الدول العربية والإسلامية.

ضحكت: ليس لهذه الدرجة، ومبدئيا لا داعى للزج بالإسلام فى القضية، فالأديان لا تنزل على الدول وإنما على الإنسان الفرد الذى سبق تأسيس أى دولة على الأرض، فالهند وهى ذات أغلبية من الهندوس وأقلية من المسلمين تعانى الأمرين من خطف النساء والتحرش بهن واغتصابهن، ألم تسمعن عن قضايا تحرش مرفوعة ضد الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب؟، ألم تسمعن عن قضايا تحرش من نجمات السينما الأمريكية ضد عدد من المنتجين فى هوليوود؟، هل تعلمن شيئا عن التحرش فى بريطانيا وما تعانيه نسبة مرتفعة جدا من الموظفات من رؤسائهن فى العمل؟..ألم..

رفعت طالبة يدها بحدة وقالت: حضرتك تريد أن تبرر ما نتعرض له من تحرش سافل بأنه عادى ويحدث فى كل مكان. أيدتها نصف القاعة بالإشارات والهمهمات..

انتظرت قليلا، هدأ الانفعال الزائد، قلت: أنتن طالبات فى الجامعة، ساحة التفكير والبحث والمنهج وبناء أدوات المعرفة وإتباعها، وهناك فرق كبير بين أمرين: التفسير والتبرير، تفسير أى ظاهرة سلبية فى المجتمع هو إرجاعها إلى أسبابها الكامنة فى عقله وثقافته وطريقة معيشته والقيم الحاكمة فيه، ودون ذلك لا يمكن علاجها، والتفسير لا يعنى قبولها أو رفضها وإنما فهمها على النحو الصحيح، التبرير هو الدفع بأعذار وحجج للسلوك قد تكون معقولة أو رص كلام عفو الخاطر، وفى كلامى قلت إن ظاهرة التحرش خليط من عناصر كثيرة، منها مكونان فى غاية الخطورة هما التاريخى والثقافي، لأنهما فى اللاوعى ويحركان السلوك فى لحظة سيولة المشاعر، دون أن ننكر دور القيم والأخلاق والتربية.

هذا حوار بالتفكير العلمى المنظم، لنحيط بظاهرة قبيحة، ولا يبرر سفالتها. نبدأ بالتاريخ، وهو تجسيد لحالة البشر الحضارية، ولعبت فيه قوة الرجل البدنية دورا فى فرض السيطرة والهيمنة على النساء، خاصة أن الحياة تستند فى دوامها وتطورها على الصراع بنفس درجة اعتمادها على التعاون، والإنسان بطبعه يجنح إلى التملك والسيطرة والهيمنة، فنشبت الحروب والغزوات، وكانت النساء والرجال دائما من الغنائم التى توزع على القادة والمقاتلين، النساء عبيد للترفيه والخدمة فى البيوت، والرجال عبيد للأعمال الشاقة فى المزارع والصيد والتشييد والصناعات اليدوية وشق الطرق وبناء الجسور وخدمة الجند من الخطوط الخلفية وأحيانا فى القتال..الخ.

ومن هنا تأسس مفهوم أفضلية الرجل المطلقة على المرأة بالمقياس البدنى المؤثر فى أى صراع، وبات للرجل حقا أن يفعل بها ما يريد فى الحرب والغزو والغارات بين القبائل والعشائر، نعم وجدت مَلِكات عظيمات الشأن فى الحضارات القديمة، لكن كن حالات استثنائية عابرة.

تاريخ ممتد آلاف السنين، ترسخت عنه مفاهيم فى أذهان البشر جميعا نساء ورجالا، لم تفلح أى ديانة فى تعديلها أو تخفيفها، بل كلما نادت الأديان السماوية بالمساواة الإنسانية بين الرجل والمرأة، كلما تفنن الكهنة ورجال الدين فى شروح دينية تحث المرأة على الخضوع التام للرجل بإرادتها، برهانا على حسن تدينها وأخلاقها.

والمساواة الإنسانية تعنى أن البشر جميعا يخضعون لمعيار واحد فى العلاقات والمعاملات، أيا كان نوع الجنس أو الديانة أو العرق أو لون البشرة أو حجم الثروة أو المركز الاجتماعي، أما التفاوت الوظيفى فهو يعنى أن كلا منهما له دور يؤديه بطريقة مختلفة لا تفاضل إنسانى فيه .

باختصار صنع هذا التاريخ ثقافة لمفهوم المرأة فى ذهن الرجل، فى المجتمعات كافة، وبالرغم من الطفرات المعرفية والحقوقية الهائلة التى حدثت فى القرنين الأخيرين لم يندثر، ويبرز فجأة فى شكل الإعلانات التليفزيونية والصور السينمائية..الخ.

صحيح..تغير العالم، ووصلت المرأة إلى المساواة الإنسانية، لكن تلك الثقافة التاريخية قابعة فى الركن البعيد الهادئ بالعقل الإنساني، لا تتوقف عن التعبير والتصرف..والمصيبة أكبر فى الشرق، لأن المرأة وهى حاملة القيم تنقل دون قصد منها إلى أولادها بعضا من تلك الثقافة عمليا، فى تعاملها مع الصبيان والبنات، يقال دوما إن البنت مثل الولد، لكن حين يقع صدام طفولى أو صبيانى أو شبابى بينهما داخل الأسرة، تفرض الثقافة القديمة مفهومها، ويتحول الولد إلى «قَيم»، لو مثلا ابن المرأة عاكس بنتا، تأخذه بلطف وربما تبرر سلوكه، ولو بنتها كلمت ابن الجيران مصادفة تفتح عليها أبواب جهنم..وطبعا الأب كذلك، أى يكبر الولد على هذا التساهل ويتصوره أمرا عاديا..وحين يتحرش يسقط منه عمدا أنها أمه وأخته وزوجته وابنته.

لا حل إلا بثقافة جديدة لها منهج مجتمعى شامل فى مواجهة ثقافة قديمة وتاريخ مشين، والأهم أن تعرف الأمهات المتعلمات أن مسئوليتهن فى بناء هذه الثقافة عنصر أساسى لاغنى عنه.


لمزيد من مقالات نبيل عمر

رابط دائم: