إحدى الأفكار التى طرحها الرئيس عبد الفتاح السيسى فى حديث له أخيرا هو تجديد الخطاب الروحى فى سياق تحديث الثقافة والتعليم. المصطلح ــ فى حد ذاته ــ له بريق، وأهمية، لأن فى مجتمعنا يغلب الحديث الدينى على الروحي، ويتصور كثيرون أن كلا المصطلحين متلازمان، وهو تصور بات بحاجة إلى مراجعة.
بالتأكيد يستمد الإنسان، بل والمجتمعات جانبًا كبيرًا من الطاقة الروحية من الدين، ولكن هناك جوانب أخرى تشكل مصادر روحية مهمة مثل الثقافة والفنون بشتى أنواعها والعمل الإنسانى على اختلاف صوره. فى المجتمعات التى تعانى التطرف الدينى تٌلغى قسرا المصادر الثقافية والفنية للروحيات، وفى المجتمعات التى يسودها مزاج علمانى اقصائى يٌستهان بالمورد الدينى للروحيات. وكلا الأمرين له نتائج سلبية، ويشكل التوازن بينهما ضرورة لتحقيق التوازن النفسى فى المجتمع.
يمثل الدين مصدرا مهما للبناء الروحى للإنسان، لأنه يخاطب بتعاليمه روح الانسان، وعقله، ونفسه. وتُعد شئون الروح مبحثا مهما فى كل دين لأنها جسر التواصل مع الله، والانسان والحياة. ورغم أن تعاليم الأديان ترقى بالروح، فإن التركيز فى الخطابات الدينية على الشئون العقيدية والتعبدية دون إيلاء نفس القدر من الاهتمام إلى الجوانب الروحية والإنسانية والفلسفية فى الحياة يمثل أحد التحديات التى تواجه الخطاب الدينى فى المجتمع، وينعكس ذلك على الأسئلة المتداولة، والنقاش حولها. فى المجتمعات المتقدمة تنشغل الخطابات الدينية بأسئلة عميقة عن تطور الحياة مثل انتشار النزعة الاستهلاكية، وتأثير متغيرات العصر على تفكير الإنسان، والتحولات فى إدراك الشباب لما يحدث حولهم، وغيرها من القضايا، التى لا تناقش بصورة كافية فى مجتمعاتنا، ونجد الناس تدور فى فلك الأحاديث التقليدية المعتادة، والتى يجرى تكرارها فى المناسبات الدينية. وتأتى الخطابات المتطرفة من جانب بعض التيارات الدينية بمثابة تحد آخر، نظرا لأنها تفرض حالة من الكآبة والتشدد ومجافة الفنون والثقافة، والنظرة السلبية للمرأة.
إلى جانب الدين، وأظن أن هذا ما يلفت الرئيس السيسى الانتباه إليه، تأتى الثقافة والفنون والعمل الإنسانى بشتى صوره، وهو ما يشكل ملامح المجتمع الحديث. ترتقى الثقافة بمعارف المرء، وترفع مستوى وعيه، وتٌكسبه استنارة ذهنية، وتساعده على التحلى بالعقل النقدي، الذى يساعده على التفكير بطريقة أفضل فى المشكلات من حوله، ويسعى إلى حلها بشكل عقلاني. والفنون، وبخاصة الموسيقي، تهذب النفس، وتضفى عليها مسحة روحية. وفى المجتمعات الغربية تستمد الغالبية رصيدها الروحى من الثقافة والفنون التى تنتشر فى كل الأوساط الاجتماعية، ولا تتركز فقط فى شريحة عليا ضيقة من المواطنين. من هنا فإن العدالة الثقافية مسألة ضرورية فى انتشار الخدمات الثقافية والفنية جغرافيا من ناحية، وتغلغلها داخل مختلف الطبقات الاجتماعية، خاصة الفقيرة من ناحية أخري. وفى بعض الأحيان يتلازم الحرمان الجغرافى مع العوز المادى بحيث تتعرض مناطق بأكملها لإهمال متراكم فى الوصول إلى الخدمات الثقافية، مما يجعلها نهبا للجهل والتطرف. وقد جاء مشروع تطوير القرى المصرية على نطاق واسع تعبيرًا عن رغبة فى كسر حلقة الفقر والجهل المفرغة، وتطوير نوعية الحياة للمواطنين، وهو ما يشكل فى ذاته حصانة ضد أفكار التطرف وغياب الوطنية.
ويعتبر العمل الاجتماعى الإنسانى مصدرا مهما للانتعاش الروحى فى المجتمعات، سواء فى صورة مبادرات أهلية تخدم الفقراء، أو الأطفال الأصحاء أو ذوى الإعاقة والمسنين، والحفاظ على البيئة، وخلق صور إنسانية إيجابية فى المجتمع. وإذا كان للتعليم دور فى نشر الثقافة والاهتمام بالفنون، فإن له دورا فى تنشئة الطلاب والطالبات على التطوع فى مجال العمل الإنسانى من خلال مشروعات التنمية، وخدمة الفئات المهمشة، والمبادرات البيئية، واعتبار ذلك جزءا من البرنامج التعليمى ذاته، وأتمنى أن يكون قضاء الطالب أو الطالبة جانبا من العطلة الصيفية فى النشاط الأهلى أحد متطلبات إتمام التعليم الثانوى أو الجامعي.
هناك مؤشرات يمكن الاعتماد عليها فى تحديد منسوب الحالة الروحية فى المجتمع، بعضها كمى مثل أعداد مستهلكى المنتجات الثقافية والفنية، والمشاركين فى الأعمال التطوعية، وغيرها، وبعضها كيفى يتصل بنوعية الحياة فى المجتمع: المساحات الخضراء، الهدوء، احترام النظام، الرقى فى التعامل، الذوق المعماري، وانتشار الثقافة والفنون على المستوى الشعبي.وتقدم تفاعلات الشارع اليومية نموذجا للحالة الروحية، وإدراك طبيعة المهام المطلوبة لتجديد الخطاب الروحى.
لمزيد من مقالات د. سـامح فوزى رابط دائم: