رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

قراءة فى التطورات الأفغانية: (1) التاريخ والمستقبل

ليس صحيحا أن أهم القضايا المرتبطة بالتطورات الأفغانية الدرامية الأخيرة تقتصر على إكمال عملية إجلاء الراغبين فى مغادرة أفغانستان أو تحديد مسئولية الفشل الذريع عن هزيمة الولايات المتحدة وحلفائها أو التغير المحتمل فى سلوك طالبان بعد عودتها للسلطة، فالحقيقة أن دلالات ما جرى تفوق ذلك بكثير، وتثير قضايا نظرية منهاجية فى التحليل السياسى وكذلك قضايا عملية تطبيقية تتعلق بتحليل الواقع السياسى الراهن واستشراف مستقبله، وأبدأ بهذه المقالة لمناقشة دور التاريخ فى التحليل السياسى وجدوى هذا الدور، ومن المعروف أن هذا التحليل يكاد يكون محروما بالكامل من إمكانية إجراء التجارب بمعناها العلمى، أى بمعنى القدرة على تثبيت كافة المتغيرات المؤثرة على ظاهرة ما عدا متغير واحد لإمكانية قياس تأثيره، فأنت لا تستطيع أن تأتى بالثورات أو الحروب أو عمليات التكامل إلى المعمل، ويُقال كثيراً أن التاريخ هو حقل تجارب علم السياسة، وهو معنى مجازى لأن الخبرة التاريخية لا تساوى التجربة العلمية، ومع ذلك يُثار كثيراً فى هذا السياق سؤال هل يعيد التاريخ نفسه؟، ويجيب البعض بالنفى بسبب حقيقة التغير الذى هو سمة أكيدة للتطورات الاجتماعية والسياسية، بل إن وتيرته تتزايد عبر الزمن لعوامل تكنولوجية وأيديولوجية وبيئية وغيرها، ومع ذلك فإن عين الباحث المدقق لا يمكن أن تخطئ رصد نماذج تاريخية فى ظواهر بعينها، وقد تناول المقالان السابقان عن ندوة مكتبة الإسكندرية الأخيرة مثلاً انتهاء المشاريع النهضوية المصرية الحديثة بفعل خارجى بما يطرح فكرة وجود نموذج تاريخى لتفاعل مصر مع بيئتها الخارجية، والواقع أن الحالة الأفغانية من الحالات شديدة الوضوح على وجود مثل هذه النماذج التاريخية.

ففى ثلاثة قرون متعاقبة (19و20و21) هُزمت ثلاثة مشروعات لقوى عظمى على الأرض الأفغانية أولها المشروع البريطانى فى القرن19 حيث لقى الجيش البريطانى هزيمة مذلة فى الحرب البريطانية-الأفغانية الأولى (1839-1842)، وثانيها المشروع السوڤيتى حيث بدأ التدخل العسكرى المباشر فى 1979 وانتهى بالانسحاب فى 1989، وآخرها المشروع الأمريكى الذى بدأ بغزو أفغانستان فى 2001 ويلفظ أنفاسه حالياً في2021، واللافت فى هذه النماذج الثلاثة التى تجمع الهزيمة بينها هو أولاً استطالة أمدها الزمنى عبر القرون الثلاثة، فقد هُزِمَت بريطانيا فى أربع سنوات والاتحاد السوڤيتى فى عشر والولايات المتحدة فى عشرين، وقد يُفَسر هذا بتعاظم القدرات العسكرية لتلك القوى العظمى بما أبطأ من هزيمتها وإن بقيت حتمية، واللافت ثانياً أن الهزيمة فى المشروعات الثلاثة لم تكن عسكرية فحسب وإنما سياسية بامتياز، فقد تمت المشروعات الثلاثة لنصرة حاكم أو نظام حكم معين أو سعت لبناء نظام حكم جديد ييسر لها تحقيق أهدافها وانتهت بتلاشى التغييرات الداخلية التى أحدثتها القوى الخارجية، فعاد دوست محمد الذى خلعه الاحتلال البريطانى إلى الحكم بعد الهزيمة البريطانية، وانهارت الحكومة التى تدخل الاتحاد السوڤيتى لدعمها بعد انسحاب قواته، وعادت طالبان إلى السلطة حتى قبل أن يكتمل الانسحاب الأمريكى، وهو ما يشير إلى ما يكاد أن يرقى إلى مرتبة القانون العلمى، وهو أن التغييرات التى تُدْخَل على نظم الحكم بإرادة خارجية ينتهى بها المآل إلى الفشل، والأمثلة عديدة من خارج الحالة الأفغانية، ومن المثير للانتباه أن التدخل المصرى فى ستينيات القرن الماضى لنصرة الثورة اليمنية قد حقق هدفه المتعلق بترسيخ الثورة اليمنية بل وزاد عليه بالنجاح اللافت فى تحرير الجنوب اليمنى من الاحتلال البريطانى فى زمن قياسى لسبب بسيط وهو أنه كان يدعم إرادة شعبية ولم يكن محاولة لفرض إرادة خارجية على الشعب اليمنى، فكأن العبرة فى نجاح عمليات التدخل الخارجى بمدى اتساقها مع إرادة الشعوب التى تستهدفها هذه العمليات.

والواضح أن الخبرة التاريخية لعمليات التدخل الخارجى فى أفغانستان لم يكن لها أى اعتبار فى القرار الأمريكى بغزوها في2001، ويثير هذا تساؤلات عديدة حول مدى رشادة عملية صنع القرار فى بلد يتمتع بحكم ديمقراطى وبنية مؤسسية معقدة، ولا يقتصر هذا بطبيعة الحال على القرار الأمريكى بغزو أفغانستان فحسب، وقد وقع صانع القرار فى بريطانيا -صاحبة التجربة الحديثة الأولى الفاشلة فى غزو أفغانستان- فى الشَرَك نفسه، ويُقال إن هتلر لم يستمع لرأى أحد مستشاريه عندما هم بغزو الاتحاد السوڤيتى في1941، إذ حذره من العواقب على ضوء خبرة نابليون الفاشلة فى غزو روسيا، غير أنه يبدو أن صانعى القرار كثيراً ما يستهينون بالخبرة التاريخية، والغريب أن تقع الولايات المتحدة بالذات فى هذا الشَرَك وهى صاحبة ثلاث خبرات فاشلة شهيرة فى عمليات التدخل الخارجى أولها عملية خليج الخنازير لإسقاط النظام الكوبى في1961 وإن لم تتورط فيها بقوات أمريكية، والثانية هى التورط الأمريكى فى ڤيتنام الذى بدأ بشكل متواضع للغاية فى أواخر خمسينيات القرن الماضى وانتهى بسحب القوات الأمريكية فى 1973 وسقوط سايجون فى أيدى الڤيت كونج فى 1975 -أى بعد سنتين من الانسحاب وليس قبل اكتماله كما حدث فى حالة «كابول»- وفقدت فيه الولايات المتحدة نحو 60 ألف قتيل و300 ألف جريح، والثالثة هى غزو العراق فى 2003 والذى فقدت فيه بأرقامها الرسمية التى يشكك الكثيرون فى طريقة حسابها ما يزيد على 3 آلاف قتيل و30 ألف جريح وسحبت معظم قواتها فى 2011 تاركة العراق الذى قدمته على طبق من ذهب للنفوذ الإيرانى يعانى عدم استقرار سياسى مزمن، ومرة ثانية من المهم تذكر أن النجاح الوحيد لعمليات التدخل الخارجى الأمريكية كان فى عملية تحرير الكويت لأنها كانت تتمتع بشرعية كويتية وعربية ودولية، فهل آن أوان إعادة الاعتبار للخبرة التاريخية فى عمليات صنع القرار؟


لمزيد من مقالات د. أحمد يوسف أحمد

رابط دائم: