تعجبنى الدولة القوية المفترية، ولا تعجبنى الدولة الرخوة "الطرية".
تعجبنى الحكومة التى تكشر عن أنيابها وتفرض رؤيتها وقراراتها على الجميع مادام غاب الوعي، وارتأت الأغلبية التردد والخوف، ورفعت شعار "ليه دلوقتي"، و"مش وقته".
ولا تعجبنى الحكومة التى تتهاون أو تتقاعس فى تطبيق القوانين بكل شراسة وصرامة بحثا عن شعبية زائفة، أو إرضاء لـ"غلابة" ليسوا بغلابة! أعجبتنى الحكومة وهى تفرض تحرير سعر الصرف رغم أنف تجار "الأخضر"، وأعجبتنى وهى تطور التعليم رغم أنف مافيا السناتر وجروبات الماميز، وأعجبتنى وهى تفرض غرامة الكمامة، إلخ.
ولكن لم تعجبنى وهى ترفع أسعار تراخيص المرور إلى أرقام فلكية، دون تطوير الأداء، ولم تعجبنى وهى تحاول تمرير قانون غريب عن الشهر العقاري، دون أى رؤية أو بصيرة، ثم تتراجع عنه، ولم تعجبنى وهى تغيب تماما عن الشارع، فتترك الميكروباص يسير مخالفا، والتوك توك يسير بالعكس، والدراجات النارية تسير على الرصيف، وأصحاب المحال يحتلون الشوارع والأرصفة، ثم تظهر فجأة لـ"الاستئساد" على سيارة ملاكى لا يرتدى سائقها الحزام، أو تتحدث صاحبتها فى المحمول!
تعجبنى الدولة وهى تقتحم أعشاش الدبابير، فتقضى على العشوائيات، وتحارب الفكر المتطرف، وتفتح ملف "يغمة" الدعم.
ولا تعجبنى عندما "تتصدر فى الهايفة"، فتتفنن فى زيادة احتقان المواطنين، وتبحث عما فى جيوبهم دون وجه حق، وتبتكر قوانين وتعليمات لا وجود لها على وجه الأرض.
علمونا "زمان" فى الدراسات الاجتماعية أن مهمة أى حكومة هى تنظيم حياة المواطنين وإسعادهم وتحقيق مصالحهم، والقيام بالوظائف التى لا يستطيع الأفراد القيام بها، مثل تعبيد ورصف الطرق، وتوفير الأمن، وتحسين الخدمات. مسئولية الحكومة معالجة الحفر والمطبات المؤذية جدا المنتشرة فى شوارعنا، بما فيها الطرق والمحاور الجديدة للأسف الشديد، ولكنها لا تفعل. مسئوليتها أن توفر رصيفا صالحا لسير المشاة، ولا تفعل. مسئوليتها أن تزيل الحجارة والفواصل الحديدية التى تعرقل "ركن" السيارات، ولا تفعل. مسئوليتها أن توفر معاملة آدمية فى وحدات المرور، ولا تفعل. مسئوليتها أن توفر مكانا محترما لركن السيارة، ولا تفعل. مسئوليتها أن تجبر أصحاب العمارات على فتح الجراجات أسفل عماراتهم، ولا تفعل. مسئوليتها أن توفر جراجات عامة بأسعار اشتراك مقبولة، ولا تفعل. مسئوليتها أن تلغى وجود البلطجى "أو "السايس" من شوارعنا، ولا تفعل. مسئوليتها أن توفر لى ولسيارتى الحماية من بلطجة السايس الذى يتلف السيارة "علنا" عقابا لصاحبها على عدم دفع الإتاوة، ولا تفعل.
فشلت الحكومة فى كل هذا، وبدلا من ذلك، أطلقت عشرات "الأوناش" لسحب السيارات من الشوارع بحجة الركن فى الممنوع، وكأنها تتوقع من المواطن استخدام "الباراشوت" فى تنقلاته بدلا من السيارة، علما بأن هذه الأوناش تغض البصر عن انتهاكات الميكروباصات والتاكسيات والتكاتك، التى تتهور وتتشقلب وتتبجح و"تركن" فى وسط الشارع، وعند مطالع ومنازل الكباري!
أما الأسوأ من الفشل، فهو أن تحاول الدولة "استرضاء" بلطجية الشوارع، و"تشرعن" وجودهم وعملهم، بل وتفعل مثلهم، وتتنافس معهم على جيب المواطن، رغم أن هذه الدولة هى نفسها التى بذلت الغالى والنفيس منذ 2013 من أجل محاربة كل مظاهر الفوضى والبلطجة وتهديد الأمن العام، والإرهاب أيضا!
حقيقة، لا أعرف اسم هذا "العبقري" الذى يقدم نصائح كهذه للحكومة لكى تزيد من سخط المواطنين "ببلاش"، ولا أعرف كيف يمكن أن يطبق قانون يلزم المواطن بدفع رسوم مقابل ركن سيارته "فى الشارع" الذى دفع المواطن بالفعل تكلفته من أموال الضرائب.
استمعت إلى آراء أحد النواب، وإلى مستشار أحد الوزراء، وإلى مسئول فى إحدى المحافظات، حول الموضوع، ولكنى بصراحة لم أقتنع بشيء، أو بالأحرى، لم أفهم شيئا مما قالوه، وربما لو ظل أمثال هؤلاء يتحدثون لمدة عشرة قرون قادمة، لما اقتنع أحد بما يقولونه!
بصراحة، بدأت أشك فى وجود "طرف ما" مصلحته أن يبقى المصريون "مستائين" طوال الوقت، أيا كانت الإنجازات من حولهم، والأمر أشبه بمن يريد تشويه صورة جميلة عن عمد، أو من يسير بحذاء ملوث بـ"الزفت" على بساط نظيف ناصع البياض! فى الإمارات، توجد وزارة لـ"السعادة"، هدفها إرضاء المواطنين، بإجراءات بسيطة جدا. أما عندنا، فتوجد تقريبا وزارة سرية لـ"الاحتقان"، هدفها العكننة على المواطن بإجراءات أشهد بأنها فاقت التصورات فى دهائها وغبائها فى آن واحد!
متى يدرك حضرات السادة المسئولين أن "الوعي" الذى تحدث عنه الرئيس مرارا، لم يكن يقصد به المواطن وحده؟!
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: