رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الطبقة الوسطى .. تضييق الحقل الثقافى

لماذا تدهورت الذائقة الجمالية على النحو الذى وصفناه فى المقال السابق؟ تحتاج الإجابة عن هذا السؤال قدرا من السياحة الفكرية الأعمق، والتى تتطرق إلى تفكيك الحقول التى لعبت فيها الطبقة الوسطى والتى ترتب عليها أن يصبح الحقل الثقافى – الفكرى حقلا ضيقا ومحاصرا بين حقول الحياة، بل والتى ترتب عليها أن يصبح اللعب الضيق داخل هذا الحقل الضيق لعبا من نوع خاص يؤدى إلى مزيد من ضمور ذائقة الجمال وتراجع الإنتاج الفكرى «وربما العلم».

قد نحتاج إذن إلى أن نطالع كتاب المجتمع المصرى فى أواخر النصف الثانى من القرن العشرين، وأن نكشف عن الحقول التى فتحت على مصراعيها، وعلى شكل اللعب داخلها «ارجو من القراء الأعزاء ألا ينزعجوا من استخدام كلمة اللعب، فما الحياة إلا مباراة كبرى، وما التفاعلات فيها إلا محاولات للمكسب والخسارة». لقد أحدثت هذه الحقبة انقلابا فى مجتمع ظل متماسكا حول نظام سياسى مركزى لربع قرن تقريباً. وكان من أهم مظاهر هذا الانقلاب أن فتحت أبواب الحقل الاقتصادى على مصراعيها، وتم الدخول إليه بقدر كبير من الهرولة واستباق المكاسب والأرباح السريعة، كما تم الدخول إليه بإرادة الجمع والالتقاط لا بإرادة التنمية والنهوض. ولقد ترتب على هذا أن تحول هذا الحقل إلى مسرح كبير للعب كبير. حقيقة أننا لا نستطيع أن ننكر وجود بعض المستثمرين الوطنيين الذين حققوا إنجازات على أرض الواقع. ولكن الغلبة كانت لأهل الجلبة: قروض يتبعها هروب أو تنكر، واستملاك غير منضبط للأراضي، وإنشاء شركات وهمية لبيع العقارات وتوظيف الأموال، واستثمارات فى مشروعات لا تحقق قيماً مضافة واستيراد كل صنوف السلع وإغراق الأسواق بها، وتشغيل ماكينة الفساد ، وانفتح حقل الاستهلاك على مصراعيه، فبدأ المجتمع يتحول بقوة وبسرعة إلى مجتمع استهلاكي، وأصبح الاستهلاك قيمة فى حد ذاته . لقد تجذرت فى بنية الحياة قيم المادة، وتراجعت القيم المعنوية بما فيها من رموز وترفع، وتراجعت قيم الإنجاز أمام قيم الاتجار والتربح، وأصبحت المهن لا تقدر إلا بما تدره من ربح، وأصبح التعليم لا يقدر إلا إذا كان للشهادة التى يمنحها رونق وشهرة .

وفى الوقت الذى كان الحقل المادى فى الحياة يتشكل على هذا النحو فتح حقل الدين على مصراعيه، وكانت الهرولة إليه شديدة نظراً لظروف داخلية وإقليمية ترتبط من ناحية برغبة بعض النخب الحاكمة فى استخدام الدين لمحاربة التيارات المدنية ، وترتبط من ناحية أخرى بصعود التيارات الأصولية أو المستخدمة للدين كوسيلة لجمع المنافع والتقاط العطايا، والسعى الحثيث من جانب كل الأطراف لاستخدام وسائل الاتصال الجماهيرى ذات التأثير الكبير فى نشر أشكال من الوعظ والتدين وأشكال من أساليب الحياة التى تميز صور التدين المستحدثة. لقد أدى كل ذلك إلى أن يتمدد الحقل الدينى تمدداً كبيراً فى الحياة، ، لا فى المجال السياسى العام فحسب، بل فى تشكيل أساليب الحياة والعلاقات بين الجماعات وأشكال التذوق. وإذا كان تمدد الحقل الاقتصادى الاستهلاكى قد أسهم فى بناء قيم بعينها، فإن هذا التمدد للحقل الديني، على النحو الشكلى الأدائى الذى تمدد به، قد أسهم فى بناء قيم وسلوكيات أخرى من أهمها الوصاية على الناس وعقولهم، وزرع الحذر والخوف فى النفوس والعقول، ومحاربة الرغبة فى الاختلاف والانطلاق، وتحويل وجهة الحياة من التطلع إلى المستقبل إلى التطلع إلى بعث الماضى الذى يقال عنه دائماً إنه ماض مجيد «مع السكوت الكبير على مشكلاته وعثراته». ورغم وجود أصوات مستنيرة نادت بعدم اللعب بالتدين على هذا النحو، فإن هذا الخطاب الحامل للتربح أو الهوى السياسى هو الذى سيطر على الحقل الدينى إلى درجة أنه خطف مجتمعات عربية برمتها، بل أصبح شكلاً من أشكال التدين المعولم الذى يمتلك وسائل تتجاوز حدود الدول الوطنية.

ولقد تشكل الحقل الفكرى والثقافى فى هذا السياق. تشكل بين رحى عالم التجارة والمال وعالم التدين «وقد تداخل كل منهما فى الآخر على نحو فريد» وكلاهما يزخر بممارسات تقدم المنافع الشخصية على المنافع العامة، أو تذهل عن المنافع العامة فى خضم زخم هائل من الهرولة فى كل الاتجاهات. ونحن على وعى بما أدت إليه هذه الظروف من تردى حالة الطبقة الوسطى نفسها وتحول جزء كبير من أعضائها إلى مصاف الفقراء، وعلى وعى أيضاً بما أدت إليه من أن ينام التطرف فى جسد الاجتماع البشري، وغير ذلك من الآثار. ولكن الأثر الذى يجادل حوله فى هذا المقال كان أكبر خسارة، أقصد ضيق الحقل الفكرى والثقافى ونحن نستطيع أن نتبين مظاهر هذا التراجع فى حقل الفكر والثقافة فى مظاهر عديدة مثل انخفاض أعداد المنتجات الثقافية «التأليف والترجمة والمنتجات الفنية». قياساً بالمؤشرات العالمية، وفى غياب المجادلات والمساجلات الثقافية والفكرية، وفى انصراف الإنتاج الأدبى إلى عالم السرد فى مقابل اضمحلال أحوال الصنوف الأدبية الأخرى «فعندما يذكر الشعر أو المسرح فإننا لا نذكر إلا رواداً من جيل الشيوخ وتلاميذهم أطال الله فى أعمارهم ورحم الله من فارقونا منهم بأجسامهم»، والميل الشديد إلى ربط الإنتاج السينمائى والدرامى بعالم الربح والتجارة، والتجاوز الخطابى الذى يشير دون وعى إلى أن تتحول المؤسسات التعليمية والثقافية إلى مؤسسات أشبه بالمؤسسات الاقتصادية «عملاً وإدارة»، وتراجع الدور الثقافى والفكرى المصرى فى الإقليم.

ولا يعنى ذلك مطلقاً أن الحقل الفكرى والثقافى قد فقد كوادره وأهله. لا، ولكنها عدوى الحقول الأخرى المحيطة والتى أفرطت فى مراقبة هذا الحقل وفرض الوصاية عليه. وكان من نتيجة ذلك أن تحول الحقل من الداخل إلى حلبة للعب أشبه باللعب فى الحقول المحيطة المسيطرة، وهو لعب يؤدى استمراره إلى محاصرة العناصر البارقة ومحاربتها وإزاحتها إلى الحافة أو تحويلها إلى حالة من الترقب أو الحذر أو الانسحاب والانتظار. ولا يمكن أن نتوقع فى هذا الظرف أن تجلو ذائقة الجمال وتزدهر، بل أن تصبح مطلباً لدى الحالمين من أهل الفكر والثقافة.


لمزيد من مقالات د. أحمد زايد

رابط دائم: