فى مسلسل «الاختيار 2»، استفزتنى كثيرا شخصية «الباكاتوشى».لا أتحدث عن شخص بعينه، ولكن عن أسلوب حياة، و«جيتو» كامل يعيش بيننا، فـ«الدعشنة» فكرة، والفكرة لا تموت، مادامت قد وجدت من يروج لها، ومن يحميها، ومن يفرخ لها أجيالا وراء أجيال.
يعيشون بيننا على أرض مصر، ولكن لا ينتمون إليها، كأورام أو بقع متناثرة فى جسد واحد، ولكن تجمعهم شبكة علاقات معقدة لا يدخلها غريب، تمتد من التجارة إلى المصاهرة.
نحن بالنسبة لهم «جنود فرعون»، وكفار قريش، حتى وإن تبسموا فى وجوهنا، فتديننا لا يقنعهم، ولا يرضيهم، مادمنا لسنا منهم.
أى معارض للدولة «مهدى منتظر» بالنسبة لهم، ومسيح مخلص «محتمل»، ملحدا كان أم فاسدا، فالدولة بالنسبة لهم ليست سوى عائق كبير يعطل تحقيق أحلامهم، فلا رئيسها رئيسهم، ولا حكومتها حكومتهم، ولا شعبها مثلهم، وكراهية كل هؤلاء يتشربونها منذ الصغر.
هوياتهم مصرية خالصة، وجوازات سفرهم كذلك، ولكن مصر بالنسبة لهم مجرد «ولاية» من ولايات دولة الخلافة المؤجلة، يعيشون فيها «مؤقتا»، مكرهين، متأففين، إلى أن تأتى لحظة الانفجار، إما بـ«ثورة»، و«تغيير»، وصندوق اقتراع، و«مرسى»، و«غنوشى»، كما حدث فى 2011، فى مصر وتونس، ووقتها سيطلقون عليها «ديمقراطية»، وإما باقتتال أهلى وحرب بالوكالة وغزو خارجي، كما حدث فى العراق وسوريا واليمن وليبيا، وسيطلقون عليه وقتها «فتحا»،!
فى فترة مضت، كنت تعرفهم فقط من اللحية والجلباب القصير والسواك، ولكن الآن، الوضع اختلف، فمعظمهم يرتدون أحدث الموضات، ويقيمون فى أفخم الكومباوندات، ويستخدمون ما ملكت أيمانهم من السيارات الفارهة، والموبايلات الحديثة.
أفراحنا تؤذيهم، وأحزاننا تسعدهم، وشماتتهم تلاحقنا دائما عند المصائب. كل فرد منهم خلية نائمة وورم سرطانى فى مكان عمله، أو سكنه، أو حتى فى النادي. يعيشون بقوانينهم، وبأفكارهم، وبمرجعياتهم، وبنظمهم الاقتصادية أيضا، ولا يستمعون إلا لمشايخ بالاسم، وفضائيات وصفحات بعينها.
أساتذة فى الكذب و«التقية»، وأباطرة فى فن «الانتفاع» من كل ما حولهم، يتعلمون فى مدارس مصر وجامعاتها، ويشربون من نيلها، ويقتاتون من خيرها، ويحصلون على كل المزايا والمكاسب الممكنة التى يحصل عليها أى مواطن، من رواتب ومعاشات وعلاوات وتموين، ومع ذلك، فهم أول من يسبونها، ويتطاولون عليها. يستخدمون الطرق والكبارى والأنفاق التى تقيمها الدولة، بل ويتقاتلون من أجل الحصول على شقق الإسكان الاجتماعي، وعلى أراض بالمدن الجديدة، وهم أيضا فى أوائل طوابير الحاجزين فى «العاصمة الإدارية»، ومع ذلك، هم أول من يسخر من هذه المشروعات!
حريصون بشدة على ألا يذهب أى عائد يحققونه إلى خزانة الدولة، فقد احترفوا التلاعب والتهرب من فواتير المياه والكهرباء والغاز والضرائب والجمارك وغيرها، ويسمونها «جباية»، ولكنها ليست كذلك إذا تم ضخها فى تنظيم مسلح، والويل لمن يطالبهم بدفع زكاة أو صدقة أو التبرع لصندوق «تحيا مصر» مثلا أو لأى جهة خيرية، لأن تبرعاتهم تعرف طريقها تماما، فإذا لم تذهب لتمويل الإرهاب مباشرة، ستذهب عبر قنوات سرية تحت مسمى بناء مسجد أو رعاية أسرة فقيرة أو كفالة أيتام.
الهجوم الضارى على وزراء التعليم والصحة والنقل هم مصدره الأساسي، فهؤلاء الثلاثة هم رءوس حربة تحديث الدولة المصرية وبناء الجمهورية الجديدة، ومن ثم، فأى تطوير أو محاربة للفساد فى هذه القطاعات الحيوية الثلاثة مرفوض، وسيأتى خرابا على دماغ خلايا الإرهاب والفساد التى ترتع و«تبرطع» و«تبلطج» وتتبجح فى هذه القطاعات دون حسيب أو رقيب.
قديما، كانت لدينا، «حارة يهود» فى القاهرة، ولكنها لم تكن معزولة داخل أسوار، كجيتوهات اليهود فى أوروبا خلال القرن الماضي، أما هذا الجيتو المصري، الذى يمثله الباكاتوشى فى الشرطة، وكل باكاتوشى فى التعليم أو الصحة أو النقل، ليس منعزلا قسرا، ولا اضطهادا، فهم معروفون، ومكشوفون، ويعرفون أننا نعرفهم، وإذا أرادت الدولة أن تتعرف عليهم أو تمنع خطرهم مبكرا، فلتتصفح معنا صفحات السوشيال ميديا والتعليقات والهاشتاجات، لتجدهم أطباء ومهندسين وصيادلة ومدرسين وأساتذة جامعة، بل وفنانين، وجميعهم يتحدثون بحرية كاملة، بلسان «المعارضة» سعداء بالاختباء فى زحام السذج منا من بتوع حق الاختلاف والنقد والرأى الآخر وجروبات الماميز و«شيلوا فلان» و«الغلابة»، و«مش كل حاجة إخوان»!
وما يحدث هذه الأيام مع وزيري النقل والتعليم خير دليل على أن الباكاتوشى حر طليق، و«الباكاتوشية» تتوغل و«تسيطر» وتحقق النتائج، وتضحك علينا جميعا!
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: