مصر قبل موكب المومياوات شيء، وبعد الموكب شيء آخر تماما.
قد يبدو الأمر مجرد حفل، ولكنه بالنسبة للمصريين، ليس كذلك، بل حدث تاريخى محورى Pivotal Event، أو نقطة تحول جذرية فى طريقة تفكيرهم, فبعد الحفل، لن يرتضى المصريون سوى الإتقان والكمال.
أيام مبارك، تم نقل تمثال رمسيس من ميدان «باب الحديد» إلى المتحف المصرى عام 2006 فى موكب بائس بـ«عربية لورى»، ووصف ذلك وقتها بـ«الإنجاز التاريخى»، أما الآن، فالأمر يختلف، فقد تعرفنا بحق على معنى كلمة «إنجاز».
لن يرتضى المصريون بعد هذا الحفل، وأيضا بعد معجزة تعويم السفينة «إيفرجيفن»، بأى عمل «أى كلام».
لن نرتضى بشوارع تملؤها القمامة، والحفر، والمطبات، ولن نقبل على أنفسنا أن يقال إننا فاشلون فى تنظيم «طابور»، أو فى التعامل مع دورة مياه، ولن نرضى بـ«بهدلة» خلق الله فى المصالح الحكومية، كما لا يجب أن ترضى الدولة لمواطنيها بإهدار أيام بأكملها فى مشاوير المرور والبريد والشهر العقاري.
لن نرتضى بعد اليوم بقوانين لا تطبق، أو لا يحترمها أحد، ولا بطرق مليئة بالحفر والمطبات، ولا بإشارات مرورية لا تعمل.
لن نرتضى بـ«صنايعى» ما عندوش ضمير، ولا بكوبرى تشطيبه «مش قد كده»، ولا بطريق جديد أنيق، ومن حوله طرق فرعية مهملة.
لن نرتضى إلا بما يقوله ديننا، وما تقوله ثقافتنا، وحضارتنا، ورأينا كيف كان أجدادنا عظماء، وكيف أننا «عايشين» على خيرهم حتى يومنا هذا.
لن نرتضى إلا بما يفعله الرئيس، وما يطبقه على نفسه، ويوجه به حكومته ووزراءه من تخطيط جيد، وتنفيذ دقيق، وجداول زمنية منضبطة، وإتقان، والأهم من ذلك العمل فى صمت، وعدم الاحتفال إلا بعد انتهاء العمل.
هناك مقولة شهيرة تقول: «لا يكفى أن تصنع خبزا، ولكن عليك أن تحسن صنعه».
المايسترو نادر عباسى، مخرج الحفل عمرو عزيز، الملحن هشام نزيه، السوبرانو أميرة سليم، عازفة الفيولين سلمى سرور، عازفة «التبمانى» رضوى البحيرى، «القديرة» نسمة محجوب، و«الرائعة» ريهام، وغيرهم.
كل هؤلاء بلغوا الكمال، كل فى عمله، وفى تخصصه، ربما يكون أحدهم قد نحت فى الصخر طويلا لكى يصل إلى ما وصل إليه، وربما يكون أحدهم اصطدم فى بدايات حياته بعقليات موظفين أرادوا تدمير موهبته مبكرا، وربما يكون جميعهم عانوا الأمرين وهم فى سوق لا تعترف إلا بأغانى المهرجانات وموسيقى الخبط والرزع وهز الوسط, وربما يكون أحدهم أو بعضهم أو جميعهم قد سقط يوما بسيارته فى مطب، أو تعرض لـ«المرمطة» فى مصلحة حكومية، أو لقلة أدب سائق ميكروباص أو توك توك، وربما يكون بعضهم قد تعرض للتنمر، أو السخرية.
ربما تكون «رضوى» مثلا صادفت من حاول إحباطها، ووصفها بأنها «عازفة طبلة»، وربما تكون «سلمى» قد اكتأبت يوما وفكرت فى الاعتزال بسبب متطرف أبلغها بأن «الموسيقى حرام»، و»الكمنجة» من مزامير الشيطان!
أقول «ربما»، ولكن هؤلاء فى حقيقة الأمر، تنفسوا هواءنا، وشربوا ماءنا، وساروا فى شوارعنا، ونشأوا فى مدارسنا وجامعاتنا، وتلقوا العلم والوعى والثقافة من كتبنا وصحفنا وقنواتنا ومؤتمراتنا، حتى وإن كان بعضهم تلقى جزءا من دراسته فى الخارج.
بعد الحفل، تغيرت أشياء كثيرة، فلم يعد أحد لديه حجة لتحقيق النجاح، ولم يعد المصريون أيضا يقبلون التسطيح والهزل، وأكبر دليل على ذلك، ما حدث فى الأيام الثلاثة التى أعقبت حفل المومياوات.
فهلاوس «الإخوان» لم تقنع حتى مريديهم.
والشيخ «أبو عضلات» الذى حاول إثارة الفتنة كعادته، وتساءل عن هوية مصر، إسلامية أم فرعونية، لقنه المصريون درسا فى الأدب والذوق، وفى الدين أيضا.
وطاقم عمل مسلسل «الملك» الذى حاول «كروتة» شخصية «أحمس»، وتقديمه بما يناسب أمزجة شخصية، تصدى لهم المصريون بقوة، إلى أن اتخذت الجهة المنتجة قرارا موفقا بوقف التصوير، كل من اقشعر بدنه لسماع أنشودة «المهابة» لن يقبل من الآن أى فن هابط.
مصر الآن أقوى من أى وقت مضي، قيادة وشعبا، وحضارتها هى الملهمة لهذه القوة، تأثير الحفل قد يكون نفس تأثير أوليمبياد سول على مكانة كوريا الجنوبية عالميا.
.. وأبدا، لن يكون حاضرنا أقل من ماضينا، كما زعم مقال فى «نيويورك تايمز»، يستحق بجدارة جائزة «بوليتزر» فى التسطيح!
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: