رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

ولتجـرى الفـلك بأمـره

غداة ليلة النصف من شعبان المباركة التى ابتهلنا فيها إلى الرحمن «اللـهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا همًا إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة ــ لك فيها رضا ولنا فيها صلاح ــ إلاّ قضيتها يا أرحم الراحمين، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعفّ عنا واغفر لنا وارحمنا..» ليلتها كان الدعاء خالصًا مواتيًا قويًا جليًا صافيًا صادقًا منزهًا محلقًا نقيًا عفيًا متوجهًا من شغاف القلب بنبرة اليقين بكل خلجة في النفس والروح للبارئ القدير الرحمن الرحيم الحليم الملك القدوس السلام المهيمن الكريم الرفيق الحليم الرءوف العدل القادر الحق ذى الجلال والإكرام بعدما رزخ الصدر وناء بحمولة جبل لا يتزحزح يسد أبواب الهواء والنماء ومجرى الدماء.. وواللـه مثلما سهر الرجال هناك في حمأة بوتقة العمل كان الكرى يعاند الجفون على مدى الستة أيام العجاف التي عاشها الوطن ساجنًا أنفاسه يحيا على أطراف أصابعه كاتمًا الآهة والزفرة والنبرة والإيماءة والتعليق، بطلُه كراّكة وخصمه بوز مركب وطالعه يرسمه خيوط عرق جباه الرجال وسمعه وبصره علي كلمات بيّنات يصرح بها الفريق أسامة ربيع صقر القناة ويشرحها لنا أبوها الروحى الفريق مهاب مميش بتفصيل نستزيده ولا نمل من تكراره..

و..تغفو العيون فى إغماءة الليل ليأتينى الفرج مع خيوط الفجر عندما يبشرنى الابن بانفراجة القناة.. البشرى التى طالعته مبكرة بالأمس عندما فتح المصحف لتضىء في عينيه ــ كهدية ــ الآية الكريمة من سورة الروم «ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره وليبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون» صدق اللـه العظيم.. نشكر ونحمد ونركع ونسجد ونبتهل «باسم اللـه مجراها ومرساها».. بأمرك تتوقف جميع الفلك وبفضلك تأتى الرياح مبشرة برحمتك التى تذوقناها بردًا وسلامًا وأمنًا وحبورًا ونورًا وإشراقة وفخرًا ليزيدها شعورا بكرامة قول الرئيس السيسى من علي متن السفينة سينا: «المساس بحصة مصر من مياه النيل خط أحمر ومن يرد أن يجرّب فليجرّب وهذا ليس تهديدًا وإنما تأكيد على حقنا في المياه».. حقنا فى الحياة بعدما أصبح الأمر يستوجب الرشاد إذ أخذ من لا يعقله يتلاعب بمصائر وحياة الشعوب وحان الوقت لإيقاف تماديه وخرس تهوره بأخذ السلاح من يده ونزع نوبل السلام من تاريخه العبثى لتمنح بأحقية الإنسانية لهيئة قناة السويس مقابلا للنجاح الكبير الذى شهد به القاصي والدانى الذى قامت به لحل أزمة السفينة الجانحة «إيڤر جيفن» وإعادة حركة التجارة العالمية في قناة السويس.

قناة السويس التي يعود تاريخها إلى فترة الاحتلال الفارسى لمصر عندما أعاد الملك «دارا الأول» عام 518 ق.م حفرها لتصل النيل بالبحر الأحمر، وكان قد أنشأها «نخاو الأول» 610 ـ 595 ق.م لتبحر عبرها اثنتان وثلاثون سفينة محملة بخير ما تجود به أرض مصر ووجهتها نحو بلاد فارس عن طريق بحر العرب.. ويكرّر التاريخ نفسه بعد أكثر من ألف عام عندما أعاد عمرو بن العاص حفر القناة نفسها ليتدفق عبرها القمح المصرى وغيره من الأغذية والمؤن إلي مكة والمدينة.. ويذكر التاريخ رسالة آثمة من أرسطو إلى تلميذه الاسكندر الأكبر بعد فتوحاته في الشرق ينصحه فيها بأن يعامل اليونانيين كقائد، وأن يعامل الشرقيين معاملة السيد لأنهم بطبيعتهم قد اعتادوا السخرة ولا يتذمرون من الطاغية.. و..من الإسكندر لفردينان ديليسبس يا قلبي لا تحزن، ‎فقد سار الأخير علي هدي النصيحة التاريخية الجائرة لتكتب جريدة «ستاندارد» البريطانية في19 ابريل1861 مقالا جاء فيه: «علمنا من مصدر موثوق به أن عمال قناة السويس يقادون سيرا علي الأقدام من بلادهم في كافة أنحاء مصر إلي بورسعيد، وقد رُبط بعضهم إلي بعض كالجمال أو مثل قطعان العبيد في أفريقيا عندما يسوقهم تجار الرقيق إلي السفن المنتظرة لتوصيل طرود البشرية».. وترد جريدة شركة قناة السويس الفرنسية غير مستنكرة للنقد أو عابئة له بقولها: «لا بأس في أن العمال الذين تجمعهم الشركة يذهبون إلي ساحات الحفر سيرًا علي الأقدام، فهم أبناء بلد لا يحظي بطرق زراعية كثيرة، أو بخطوط حديدية منتشرة، وقطع المسافات سيرا علي الأقدام الحافية أمر مألوف للغاية في مصر».. و..تظل الأوامر تخرج من القصر بشحن العمال إلي مراكز التجميع في الصعيد والوجه البحري، ومن هناك إلي مراكز التجميع في الزقازيق، حيث يبدأ ربطهم بعضهم البعض بالحبال وسوقهم سيرًا علي الأقدام تحت إرهاب السياط والسلاح إلي ساحات الحفر ليحصل كل منهم علي أجر يومي قرشان ونصف القرش في اليوم ــ كما تقول الشركة ــ وإن كان ما يحصله حقيقة وفى الواقع لا يتجاوز نصف القرش يدفع منه ثمن طعامه بعد مرور المرتب علي مطامع المقاولين وسماسرة الأنفار.. وعندما تفوح رائحة السخرة في بر مصر، توعز الشركة إلي رؤساء العمال الموالين لها بنفوذ الرشوة والإرهاب بتدوين العرائض النافية للسخرة في معاملة فلاحي الحفر، ومنها عريضة وقعها 27 منهم كانت ضمن الوثائق التي جمعها «رينيه قطاوي بك» مدير عام شركة كوم أمبو تقول: «نشهد أن العمال قد جاءوا للعمل بمحض إرادتهم ورغبتهم، ومقادير الماء متوافرة لديهم بل تزيد علي حاجتهم، ويقدم إليهم كل يوم ما يحتاجونه من أطعمة وخبز يخصم ثمنها الزهيد للغاية من الأجور وتدفع لهم بانتظام، والعمل قائم علي أساس الرغبة والاختيار لا علي الرهبة أو الإجبار، وأن مستخدمي الشركة الأجلاء لا يوجهون للعمال أي إهانة وأنه لم يقع حادث وفاة واحدة أو ظهور أى مرض على طول ساحات الحفر»..


ويروي عرق المصريين أرض قناة السويس قبل أن ترويها مياه البحرين، وترتفع الفؤوس وتهبط بآلية البشر المسير ليتردد غناء القهر:

روح يا زمان روح وخلينا بغلابتنا

احنا السبوعة وجت الأيام غلبتنا

وتؤكد شركة قناة السويس أن الدليل علي حُسن معاملة الفلاحين أنهم يغنون وسط العمل، ولا يدركون أنها أنات الألم التي تشد الأزر، وترسخ الصبر، وتحشد فتات القوة و..هيلا هوب هيلة!!.. وكان عدد العمال المسخرين في حفر القناة 20 ألفا يتغيرون كل شهر، وقد ترتب علي ذلك تأثر الزراعة في بر مصر، إذ بينما يكون20 ألف فلاح منكفئين في ساحات الحفر يكون هناك20 ألفا آخرين في طريق عودتهم إلي قراهم بعد انتهاء سخرة شهر الحفر، بينما يكون هناك 20 ألفا ثالثة تشد الرحال إلي محفر السخرة في السويس ابتداء من الشهر المقبل، أي أن هناك شللا تامًا في قطاع 60 ألف فلاح مصري بعيدون عن أراضيهم، وقد حاولت الحكومة المصرية إرسال خمسة آلاف جندي قاربوا انتهاء خدمتهم العسكرية للمشاركة في حفر القناة إلا أنهم رفضوا المهمة اللاإنسانية بمجرد مشاهدتهم لأرض الواقع المرير، وعجز الضباط عن السيطرة عليهم عندما تجمعوا ساخطين للعودة إلي بلادهم بعد وقوع العديد من المصادمات مع المهندسين الفرنسيين المشرفين علي المشروع، ولولا دهاء ديليسبس وأوامره بألا يعاقب أحد من الجنود لانتشر خبر هروب العمال من القناة، ولذا اكتفي بعدها بالعمالة العاجزة عن إبداء تذمرها من قسوة السياط، والتي كان بعضها يتمكن من الهروب تحت جنح الظلام أو السقوط إعياء جوعًا أو عطشا ومرضًا لتنزف مصر أقوي شبابها ورجالها من سن 16 إلي الـ40 الذين يدفنون من قبل أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة حتي لا تنتشر الأوبئة وتموت أعداد أكثر لم تزل الأرض في حاجة إلي ضربات معاولهم..

ويكتب البريطاني «بيرس بادجر» في كتابه عن مصر أنه التقي بآلاف العمال المصريين، وكان حريصًا علي سؤالهم فيما إذا كانوا قد قدموا للعمل للقناة بمحض إرادتهم فكانت جميع الإجابات كلمة سجلتها كل الأفواه وكتبها الإنجليزي بالحروف اللاتينية بأن الأمر كله قد تم بـ«الزورBizzor»!!.. واستمر حفر قناة السويس.. الملحمة التي رأي فيها المؤرخ جمال حمدان أمرًا جللا: «جاءت القناة كأكبر عامل اختزال Catalyst في جغرافيا النقل الكوكبية، فقد أعادت توجيه القارات، ورجّت القيَّم الچيوماتيكية، فبعملية جراحية جغرافية، صغيرة نسبيًا، اختزلت قارة برمتها هي أفريقيا، وأسرت طريق الرأس الصالح وأعادت وضع الشرق العربي ومصر في قلب الدنيا وفي بؤرة الخريطة، ومن المحتمل أن عملا من أعمال الإنسان لم يؤثر علي علاقة الأمم بصورة أكثر منها عمقًا، ومن الصعب تصور مثل هذا الإنجاز مرة أخري في حدود القدرة البشرية في تمكنه من تغيير أوضاع الطبيعة.. ومن خطورة ونتائج القناة أنها منذ شقت، وبالأخص منذ حلّ البخار محل الشراع الذي كانت تعاكسه رياح البحر الأحمر، أصبحت شريان المواصلات العالمية وعنق الزجاجة في الملاحة، وتحولت إلي قِبلة كأنما الدنيا كلها علي ميعاد فيها.. باختصار أصبحت مركز الثقل في حركة العالم، والقارات معلقة إليها، وأبسط معني أنها جددت شباب موقع مصر الجغرافي وأعادت إلي الجسم المريض دورة الدم والحياة.. لقد أتت القناة هدية الموقع إلي مصر، وهدية مصر إلي العالم.. فكم أعطت القناة للعالم.. ولكن كم أعطي العالم لمصر؟!!.

وقد يبدو طريفًا أن مشروع قناة السويس قد بدأ بسبب سروال محمد علي الألباني الفضفاض، فقد كان في عام1802 مجرد ضابط صغير بالجيش التركي دُعى إلي وليمة فاخرة في دار القنصلية الفرنسية أقامها «ماتيو ديليسبس» ــ والد فردينان ــ أول قنصل عام لفرنسا في مصر، وبعد انصراف المدعوين ظهر غياب عدد كبير من الملاعق والشوك والسكاكين الفضية التابعة للقنصلية، فحامت الشكوك علي الفور حول محمد علي وبخاصة لأن سرواله الواسع يساعد علي إخفاء المسروقات بين طياته، فأمر «ماتيو» بإجراء تحقيق فوري أظهر إدانة شخص آخر غير محمد علي، ومن بعدها ظل القنصل يُظهر التوقير المبالغ فيه له أمام الجميع، ليزيل من نفسه الإهانة فما كان من محمد علي إلا أن يبادله بدوره تعظيما بتعظيم مما أنشأ رابطة وثيقة بينهما ارتفعت إلي مصاف الصداقة بين مصر وفرنسا بعد تولي محمد علي حكم البلاد، لكنه ظل يرفض الفكرة الفرنسية بمشروع قناة السويس بحجة ضرورة إشراف الحكومة المصرية علي تنفيذه وتمويله كلية كي تخلص القناة لوطنها.. وكانت الدفعة الأولي من أتباع جماعة الفيلسوف الفرنسى سان سيمون ـ الذى كان من بين تلامذته «أوجست كانت» من رواد الحركة الفكرية الفرنسية في القرن الـ19 ــ قد وصلت إلي الاسكندرية فى سبتمبر 1833 وعلى رأسها الأب «انفانتان» الذى حمل لواء فكرة أن شق قناة السويس أمر واجب التنفيذ وكتب بروح صليبية عن القناة «نشق أحد الطرق الأوروبية الجديدة بين مصر العريقة ومملكة يهوذا صوب الهند والصين ونضع قدمًا على النيل وأخرى فى أورشليم» وقد قابل الأب «انفانتان» محمد على وأبدى له إعجابه بالقبض على زمام السلطة في البلاد، ومن أنه يستطيع توجيه مئات الآلاف من العمال لإتمام مشروع القناة التي يحلمون بها كما فعل من قبل في شق ترعة المحمودية، ورفض محمد على قائلا عبارته الشهيرة «لا أريد بسفورا في مصر يسبب لها مشاكل خاصة وأن بلادى المطموع فيها أصلا سوف تصبح بسبب قناتها مسرحا للمطامع السيئة».

ورغم أن قناة السويس كان أحد الأهداف الاستراتيجية للحملة الفرنسية فإن المهندسين المصاحبين لها بعد قيامهم لمدة عام بدراسة مستفيضة علي أرض الطبيعة قدموا لنابليون فى تقريرهم مع نهاية عام 1799 باستحالة حفر تلك القناة لاعتقادهم أن مستوى مياه البحر الأحمر يرتفع عن مستوى المتوسط بـ33 قدمًا.. وكانت غلطة أجلت الدوشة!

وأبدًا لم يكن محمد علي رافضًا لأى مشروع يجلب الخير لمصر، لكن عينه الثاقبة كانت دائما علي أمن مصر وأن تكون القناة لمصر لا مصر للقناة، وأن فرنسا ومصر متى حفرت قناة السويس فإن انجلترا هى التى ستنام فيها.

وعلي غرار محمد علي سار خلفاؤه إبراهيم وعباس في رفض حفر القناة.. إبراهيم الذي كان يعد نفسه مصريًا إلي حد أن أحد جنوده خاطبه في نطاق الحرية التي كان إبراهيم يُشجِّع عليها رجاله قائلا له: كيف تطعن الأتراك في كـلامك وأنت منهم؟ فأجابه إبراهيم: أنا لست تركيًا فإني جئت إلى مصر مع أبى من «قولة» طفلا ومنذ ذلك الحين مصرتني شمسها وغيَّرت دمائى لتجعلنى قلبا وقالبا ابن مصر.. ورغم فتوحاته وانتصاراته فقد حافظ علي احترامه وإجلاله لأبيه إلي حد لم يكن يسمح لنفسه بالتدخين في حضرته، بينما استقبلته الملكة فيكتوريا فى قصر بيكنجهام وأقامت له حفل عشاء ضخم واستغرق موكبه في فرنسا أكثر من ساعتين حتى يجتاز المسافة الفاصلة بين المحطة وقصر الإليزيه حيث أقام في جناح نابليون بونابرت.. ولم تزد مدة حكم إبراهيم على السنة والنصف من ابريل 1847 حتى نوفمبر 1848 وكانت وفاته صدمة هائلة للأب المريض الحزين «محمد على» الذي أنشأ أمة وأسس دولة وشيّد دعائم حضارتها..

و..من بعد إبراهيم يأتي عباس الذي يكره الأجانب ويتحاشي إعطاءهم أي امتيازات، ولم يمد يده للاستدانة منهم وكان يعمل علي سد عجز الميزانية دون اللجوء إلي القروض، واكتفي بإصلاح الطريق بين القاهرة والسويس، وأمر بإغلاق مستشفي القاهرة والمؤسسات الملحقة به كمدرسة الطب والأمومة ومدرسة التمريض التى تخرج القابلات ومراكز التطبيب، قاضيًا بذلك دفعة واحدة على كل العناء الذى تكبده كلوت بك، وعلي مستوى التعليم فلم يعره اهتمامًا ليتناقص عدد المدارس وكأنما خلق ليكون الصورة المعكوسة لجده فى جميع منجزاته، وعندما توفي محمد على فى استانبول فى 2 أغسطس 1849 نقل جثمانه للقاهرة على ظهر مركب بخارى استخدم قناة المحمودية التي شقت بأمر منه قبل ثلاثين عاما ثم سارت فى النيل، وفى 4 أغسطس وضع النعش في مسجد القلعة، حيث أراد لقبره وتم الدفن بلا موكب ولا مرافقة عسكرية تبعا لأوامر الحفيد الخديو عباس الذى مات مقتولا في قصره المعزول بمدينة طنطا في 14 يوليه1854 بتحريض من عمته نازلي هانم.. وما كاد سعيد يتبوأ الأريكة حتي يرقص فردينان ديليسبس فرحًا فقد أوشك علي تحقيق حلم شق القناة فأرسل يهنئ سعيد صديق الطفولة البدين عاشق المكرونة الذي كان يهرع إلي القنصلية الفرنسية أيام كان قنصلها والده ماتيو ديليسبس ليلتهم أطباق الاسباكيتي الشهية معه لتنمو بينهما أواصر صداقة لم تنقطع إلا بعودة القنصل الفرنسي لدياره..

ويكتب فردينان في مذكراته: «لقد استقبلني محمد سعيد باشا بمودة بالغة».. وتتكرر اللقاءات ويرسل سعيد لضيفه الفرنسى فرسا عربيا أصيلا اسمه «عنيزة» وأثناء مناورات الجيش أراد فردينان إظهار قدراته فى الفروسية فأطلق عنان عنيزة وما أن وصل حاجز الصخر حتى قفز من فوقه بمهارة أثارت الجميع، واستمر في انطلاقه ليصل إلى حيز الخيام، ومنها يعود لموقع الأمير ورجاله ليجدهم فى حالة نشوة من جرأة الفارس وقوة الحصان وجمال الحركة، وهنا لمعت الشرارة فى رأس الفرنسى فقد أدرك أن فى الإطار مناخ إعجاب وترحيب وأنه قد حان الوقت لمصارحة الأمير بمشروع حياته ليكتب عن تلك اللحظة الحاسمة في مذكراته: «كان الباشا مغتبطا فأخذنى من يدي واحتفظ بها في يده برهة ثم أجلسنى إلي جواره وكنا وحدنا وفتحة الخيمة تسمح بمشاهدة شمس الغروب ونسمة الجنوب تلثم جباهنا.. وساعتها عرضت المشروع دون دخول فى تفاصيل مزعجة، واستمع سعيد باهتمام، ورجوته أن يتفضل بإبداء شكوكه فذكر بذكاء كبير بعض الاعتراضات التي كان في جعبتى إجابات شافية عنها فقال: «إنني مقتنع وموافق ولسوف نشغل أنفسنا عبر رحلتنا ببحث وسائل التنفيذ ويمكنك الاعتماد علي».. ويصدر مرسوم الأمير سعيد بشأن مشروع حفر قناة السويس بديباجة هي أقرب إلي العشق منها إلي الصداقة والود حيث قال: «إلي صديقي المخلص الكريم المنبت، العظيم الخِصال، العالي المقام، الفارس الهُمام المسيو فردينان ديليسبس الذي خولناه بموجب هذه الوثيقة السلطة التامة لتأليف شركة عامة لحفر برزخ السويس واستغلال القناة التي ستصل بين البحرين الأبيض والأحمر.. وبموجب المرسوم قدم سعيد إلي هذه الشركة جميع الأراضي التي تمر بها القناة والتي علي جانبيها مجانا، مع إعفائها من كافة الرسوم والعوايد، ومنحها حق استخراج ما يلزمها من مواد البناء من المحاجر الأميرية مجانا، وانفرادها بدخل القناة لمدة 99 عاما.. كما منح سعيد الشركة الفرنسية حق حفر ترعة مياه حلوة من فرع النيل إلي منطقة القناة للارتواء منها دون مقابل، بل وأضاف أنه إذا أراد أصحاب الأطيان المجاورة ري أراضيهم فعليهم أن يدفعوا ثمن المياه للشركة الأجنبية.. و..كانت المادة العاشرة من المرسوم الشيطانى تقول: توفر الحكومة المصرية للشركة كل القُفف اللازمة لنقل الأتربة ومواد البناء، وكذلك البارود اللازم لاستغلال المناجم!!!

و..فجأة وسط المد الهمايونى يرسل سعيد إلى ديليسبس يستدعيه من منطقة الحفر بالسويس علي عجلٍ ليُطلعه علي رسالة من الباب العالي يخبره فيها بامتعاضه من استمراره في مشروع القناة دون علم مسبق أو الموافقة النهائية من السلطان، فما كان من ديليسبس إلا أن نصح الأمير المتخوف بأن يسير علي نهج سياسة رؤساء المجالس المحلية في إسبانيا عندما تردهم أوامر ملكية عليا يرونها تتعارض مع مصلحة البلد التي يقع تحت لوائهم فكانوا يقولون بالإسبانية Seacutapero أي نحترمه لكننا لا ننفذه، وارتاح سعيد للنصيحة، أما ديليسبس فقد عاد لمواصلة العمل، ولم يكن الاثنان يعلمان أنه آخر لقاء بينهما، فقد سافر سعيد بعدها إلي أوروبا للاستشفاء من مرض عضال ليعود إلي الإسكندرية وقد تدهورت صحته إلي حد الرحيل في 18 يناير 1863 وله من العمر 42 عاما ليُدفن بمسجد النبي دانيال بعد حكم 8 أعوام و9 أشهر و6 أيام.. ليأتي من بعده إسماعيل الذي أضاف إلي اسمه لقب «الخديو» وأصله صفة مشتقة من كلمة «خيفا» وهي اسم فارسي يعني الرباني أو الإلهي، ولم يفز إسماعيل باللقب بالمجان.. ويندفع الخديو في البذخ وفي غزوات لا طائل من ورائها، وفي مشاريع وهمية كثيرة ليقفز الدين القومي في زمن قليل من ثلاثة ملايين إلي المائة مليون، ومع اقتراب افتتاح القناة في 17 نوفمبر 1876 تدور عجلة الإسراف بجنون لإقامة احتفالات تستمر 4 أيام، تسلط منها أنوار الماغنسيوم علي الأهرامات، ويستدعي من فرنسا وإيطاليا 500 طباخ و1000 سفرجي لتقديم الأطعمة لستة آلاف مدعو بينهم أباطرة وملوك وأمراء ونبلاء وسفراء ومراسلو صحف أجنبية، في الوقت الذي تم فيه تجاهل السلطان التركي.. واستغل ديليسبس علاقته ببلاط الإمبراطور نابليون الثالث وصلته العائلية بالإمبراطورة أوچيني ابنة خالته فدعاها لتكون علي رأس المدعوين، وحرص ديليسبس علي أن تمثل الأديان السماوية الثلاثة في الحفل، وكان إسماعيل قد أقام 3 سرادقات ضخمة خصص أوسطها لملوك أوروبا وأمرائها، وعلي اليمين لعلماء الدين الإسلامي يتقدمهم شيخ الأزهر الشيخ مصطفي السقا ومفتي الديار الشيخ محمد المهدي العباسي، أما السرادق الثالث فلرجال الدين المسيحي يتقدمهم الرسول البابوي الذي افتتح خطابه بدعاء لشيخ الأزهر، وكان حضور الأمير عبدالقادر الجزائري بملابسه البيضاء قد أضفي علي الحفل قدرا كبيرا من السمو.. وكان وراء اهتمام ديليسبس بوجود ممثلي الأديان في الحفل امتدادا لرؤية نابليون بونابرت السابقة التي اكتشفت قوة الوازع الديني لدي المصريين، سواء مسلمين أو أقباطا، فحاول بدوره اللعب بنفس الورقة فقام بتوطيد علاقته بالأنبا كيرلس الرابع بطريرك الأقباط، وعلي نفس الدرجة بذل نشاطًا واضحًا في الدوائر الإسلامية، فكان يؤكد علي تشييده مسجدًا في كل ساحة من ساحات الحفر، ويردد كيف جاء ذكر مشروع قناة السويس في الإنجيل والقرآن، وكان يستشهد بكل آية تحدثت عن البرزخ أو المياه أو البحر ليثبت للمسلمين أن القرآن قد حثهم علي حفر قناة السويس امتثالا لقوله تعالي: «مرج البحرين يلتقيان. بينهما برزخ لا يبغيان. فبأي آلاء ربكما تكذبان»، ولم تقتصر حملته الدعائية علي ذلك، بل ذهب إلي أصحاب الفكر والقلم ليُقنع رفاعة رافع الطهطاوي بتأييد المشروع، وعندما زكي رفاعة أحد أئمة المساجد قام ديليسبس بتعيينه علي الفور إماما للمسجد شمالي بحيرة التمساح براتب 125 فرنكا، وقد قام الطهطاوى بنظم قصيدتى مدح للمشروع قام الشاعر الفرنسي الشهير اللورد بيرون بترجمتهما للفرنسية.

فى بداية عهده كانت الصحوة التى أراد معها اسماعيل إلغاء أحد بنود عقد شركة القناة الذى يُلزم مصر بتوريد العمال للحفر بالسخرة وظلت الشركة تماطل لمدة خمس سنوات ــ والعمل جارى علي قدم وساق ــ ثم أعلنت رضوخها الظاهرى، ثم طالب الخديو بإلغاء البند الخاص بالترعة الحلوة مع إلغاء حق الشركة في الأراضى الواقعة على ضفتيها وتظاهرت الشركة بالموافقة أيضًا. وفجأة وجدت مصر نفسها مطالبة بالتعويضات عما سبق، فإلغاء السخرة يكلف 38 مليون فرنك، والتعويض عن الترعة 10 ملايين، وثمن ضفتي الترعة 30 مليون أخري، ولم تكتف الشركة الناهبة بهذا بل قالت إنها لو أتمت الترعة فإنها كانت ستبيع المياه للمزارعين علي الضفتين، وكانت ستأخذ رسومًا من المراكب التي سوف تستخدمها، وقدرت كل ذلك بـ6 ملايين، بالإضافة إلي أن هذه الترعة كان سينمو في مياهها السمك الكثير وهو أحد الموارد الخصبة التى ستخسرها أيضا. وقد بلغ مجموع التعويضات 84 مليون فرنك رفضها إسماعيل ثم قبل التحكيم أمام إمبراطور فرنسا نابليون الثالث الذي أقرَّ ــ للأسف ــ التعويضات ولم يكن أمام مصر سوي الرضوخ ليُشهر الخديو إسماعيل إفلاسه وترهن مديريات بأكملها مثل المنوفية والشرقية والجيزة ويتم الاستغناء عن مئات الموظفين لضغط المصروفات، وفي فبراير 1879 وحده أحيل إلي الاستيداع 2500 ضابط، ودخل الوزارة المصرية وزير فرنسي للأشغال ووزير إنجليزي للمالية وكان قد مات تحت الانهيارات الرملية في سنين حفر القناة ما يزيد علي المائة ألف مصرى دون دفع تعويض عنهم أو جزاء.

و..ذهب ديليسبس ليوقع بحباله علي الجانب الآخر من العالم. فى بنما.. فقدم اقتراحه في المؤتمر الجغرافي الدولي الذي عقد بباريس عام 1879 حول إمكانية حفر قناة لربط المحيطين الأطلنطي والباسيفيكي، وسارع بتكوين شركة لهذا الغرض مستثمرًا النجاح الذي حققه في قناة السويس، لكن الأمور اختلفت تماما هذه المرة، فليس في بنما من يعشق المكرونة الاسباكيتى ولا لديه عقدة الخواجة مثلنا ولا حكومة غنية يبتزها، وانتهي الأمر بتصفية الشركة لتجري الحكومة الفرنسية تحقيقا رسميا حول تجاوزات ديليسبس وولده شارل لتقدمهما للمحاكمة بتهمة التدليس وصدر ضد كل منهما حكم بالسجن لمدة 5 سنوات، وفي الطعن ألغي الحكم وأعيدت المحاكمة لوقوع خطأ في الإجراءات، وعندما حان موعد المحاكمة من جديد كان فردينان قد مات لتسقط الدعوي ضده ويسجن شارل وحده، وكان قد ثبت للمحكمة استخدام فردينان الرشوة لشراء ذمم أكثر من مسئول وعضو برلمان وعمدة ووزير مما أثار فضيحة لوثت تاريخ الجمهورية الثالثة بفرنسا.. مات ديليسبس في 7 ديسمبر 1894 عن عمر يناهز 89 عاما وكان قد تزوج وعمره 64 عاما شابة في الواحدة والعشرين «هيلين دي براجار» التي أنجبت له ذرية بلغت12 ابنا وابنة.. مات مهندس الابتزاز بعدما وضعه المصريون في خانة الريبة، والفرنسيون في مربع الغضب، والأتراك في مهبط التشفي، وأسقط البورسعيديون تمثاله من فوق شط القناة لينكفئ علي وجهه مكسور الأنف منكس الجبهة في بدروم تحت السلم، وإن جاء في عام 2004 الكاتب المصرى أحمد يوسف المقيم بباريس ليقدم لنا فى القاهرة مؤلفه بعنوان «ديليسبس الذى لا نعرفه» من خلال مذكرات ديليسبس التى كتبها عام 1885 أى بعد 16 عاما من افتتاح القناة ويعترف يوسف أنه بكتابه هذا يسبح عكس التيار مؤكدًا أن ديليسبس قصد بحفر القناة مصلحة مصر وظل حارسًا لمصالحها طوال حياته وللإجابة عن قوله ورأيه الذى استغرق لإثباته 300 صفحة أن قومه ذات أنفسهم فى فرنسا قد اكتشفوا حقيقته عندما تعرضوا لتدليسه في مشروع قناة بنما ليرحل مكللا بعار تلك الفضيحة تاركًا ابنه فى السجن.

مات فردينان ماري ديليسبس (1805 ـ 1894) بعدما حرم مصر من تمثال الحرية للنحات الفرنسى فريدريك أوجست بارتهولد (1834 ـ 1904) الذى استلهم الفكرة من تمثال كلو سوس فى جزيرة رودس (إحدى عجائب الدنيا السبع القديمة) ليصنع تمثالا بارتفاع 90 مترا لفلاحة مصرية تحمل الشعلة (رمز منارة الاسكندرية) لتقدم مصر نور الحضارة إلى آسيا ودول العالم.. ولقد أدت مقاومة ورفض ديليسبس لفكرة التمثال ــ لما في نفس يعقوب الفرنسى ــ إلي أن يبيعه صاحبه بارتهولد للأمريكيين لينصب في نيويورك فى 1886 تعبيرا عن (الحرية شعلة استنارة العالم)..

ولقد أخطأ أحمد يوسف في ذكره بأن ناصر قد أشاد فى خطبة التأميم بديليسبس، فحقيقة الأمر أن عبدالناصر لم يأت على ذكر ديلسبس إلا بمثابة الكود الذي استخدمه وسط خطاب تأميم قناة السويس كشركة مساهمة مصرية لينتفض الرجال الأبطال لحظة سماع الاسم للاستيلاء على المراكز الحيوية بالقناة وشركتها وترتفع ألحان السمسمية وتشدو أم كلثوم محلاك يا مصرى وانت عالدفة..

 

•• ••

 

د. كمال الجنزورى

رحل الكبير الذى لم تشغله مناصبه عن السؤال والتهنئة والمشاطرة والدعوة على فنجان القهوة.. رئيس الوزراء القارئ المثقف المتابع المستمع الجيد صديق الأزمات صاحب صاحبه الآخذ بيد الحلول.. علي مدى سنوات طويلة روى لى الكثير من باب فضفضة ليست للنشر ويوم أن كتبت ما رواه لى عن فلاح بلدهم الذى صفع العمدة الظالم لم يعلق ولم اسأله رأيه.. صاحب بصيرة الخطط الخمسية ومشروع توشكى العملاق من تسكنه الأرقام كان من بعد الجلسة التي يرأس فيها وزراء ومسئولين وكبار دولة يهرع إلى ما وراء باب مكتبه للسجود بجبهة تلاصق الأرض كى لا يصيبه الغرور.. القريب للعقل والقلب سأفتقد الجلوس إليك وكنت الحريصة عليه وسأفتقد جلوسك فى الصف الأول فى أى من المناسبات الوطنية وكنت حريصًا عليه

وداعًا د. كمال الحامل للواء الكمال.. والكمال للـه وحده..


لمزيد من مقالات سـناء البيـسى

رابط دائم: