رغم أن النصر والهزيمة ضدان فى حياة الجميع إلا أن الأمر يبدو مختلفا بالنسبة للرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى كان يريدها نصرا مستداما وحقا مكتسبا. بالنسبة له لابد من النصر مهما تكن التكاليف والطريقة, فهو غاية تبرر الوسيلة كما قال مكيافيلى، وبالتالى فإن القاريء لكتابه فن الصفقة يدرك ذلك عنه ويدرك أنه لا يريد إلا النصر فى كل أمر وكأنه صفقة عمل يستطيع التحكم فيها وتحقيقها. يقول فى كتابه فن الصفقة المنشور عام 1987: أنا أقر أننى منافس شرس, وأننى سأفعل كل شيء لأفوز لأن الأمر فى إنجاز الصفقة يحتاج أحيانا تناول المنافسة بالسوء. لو أن خصمك سريع الغضب حاول إثارة غضبه. تظاهر بأنك ضعيف حتى يصبح مغرورا. لو حدثت مواجهة هاجمه فى مواضع ضعفه. لأنه فى الحرب يجب أن تتجنب مهاجمة القوى وتصيب الضعيف.
هذا ما أراده ترامب, ولكن ما أراده الله أمر آخر: أراد الله أن تكون هزيمته أمام كل العالم الذى يشاهد ويتابع وأمام خصوم كثيرين يسعدهم ما يشينه. كانت 90 ساعة بالضبط ممتدة من لحظة نهاية الاقتراع وحتى إعلان فوز غريمه. كانت لحظات طويلة بطيئة وقاسية ومهينة من تجرع مرارة كل ثوانيها لتكون أضعاف سرور أربع سنوات من الحكم وسكنه البيت الأبيض وكأنه قيصر العالم ومندوبه السامي. فى الانتخابات الرئاسية لعام 2016 كان ترامب والذين معه فى فرحة غير مسبوقة نتيجة توقع الجميع هزيمته من غريمته هيلارى كلينتون والتى تجرعت بحارا من مرارة الهزيمة لدرجة جعلتها تختفى لمدة طويلة عن الأنظار.
جاء ترامب ليحكم بطريقة غير معهودة عبر التاريخ الأمريكى كله، ناصب فيها العداء والنفور للحلفاء ولغالبية العالم. إضافة الى عداء شديد مع الميديا واتهامه إياها بأنها كاذبة زائفة, وتعامله باحتقار مع غالبية الإعلاميين. كان كثير الذكر لأنصاره أنه لن يخسر إلا إذا تم تزوير الانتخابات, فأصبحت تلك الجملة مصباحا منيرا لأولئك الأتباع. قبل تلك الانتخابات كان المرشحان ينتظران مع عائلتيهما ما تذيعه الشبكات الإخبارية من نتائج الانتخابات بعد قفل صناديق الاقتراع مباشرة فى كل الولايات حسب مناطقها.
كانت النتائج تعلن خلال ساعات من قفل صناديق الاقتراع ويعلن حصول الفائز على 270 صوتا انتخابيا أو أكثر, يعلن عقبها المهزوم هزيمته أمام أنصاره الذين كانوا يتابعون مثله النتائج فى مقره الانتخابى ويشكرهم على مجهوداتهم وتحملهم الصعاب والشدائد معه خلال الحملة المرهقة ثم يقوم بعدها بالاتصال بغريمه الفائز, أحياناعلى الهواء أمام الشعب الأمريكى كله وتهنئته وتنازله رسميا. عقبها يشكره الرئيس المنتخب الفائز ويثنى على قدراته ويمدحه ثم يعلن أنه سيكون رئيسا لكل الأمريكيين الذين انتخبوه والذين لم ينتخبوه.
لم تكن انتخابات 2020 على هذا النمط, تطلب الأمر أربعة أيام ليعرف العالم نتيجة الانتخابات وتحديد الفائز بالرئاسة الأمريكية. كان الفائز جو بايدن الذى كان يسخر ترامب من قدراته وينعته بأقذع الصفات. عبر تلك الساعات الطويلة ظل ترامب والذين معه وكأنهم يموتون موتا بطيئا ولا يريدون قبول الهزيمة ويجادلون فى النصر وهو بعيد المنال وأمر شديد المحال. كانت اللحظات الأخيرة لترامب وهو يشاهد هزيمته من غريم وصفه مرارا وتكرارا فى خطابات حملته الانتخابية: ماذا سأفعل إذا هزمنى أسوأ منافس فى التاريخ (يقصد بايدن). قد اضطر لترك البلد. كان يقولها من باب التقليل من غريمه وبقصد السخرية منه وإضحاك أنصاره. كان يشاهد هزيمته وهو لا يقوى على فعل أى شيء فى منظومة لا تسمح بتدخله عدا منحه حق الاعتراض القانونى المستحق, وهو ما فعله بقوله إن الانتخابات قد تم تزويرها من قبل الحزب الديمقراطى وأنه يتعين على المحكمة العليا الأمريكية أن تتدخل على وجه السرعة وتبطل ما فعله الديمقراطيون وتمنحه النصر المستحق له.
لقد فعلها العجوز بايدن ذو الثمانية والسبعين عاما ليكون ثانى رئيس كاثوليكى أمريكى بعد جون كينيدي. ساعدته الكورونا فى المقام الأول, وغرور ترامب نفسه فى المقام الثاني. وما يضاعف من وقع الهزيمة على ترامب هو الوصمة التاريخية بوجوده مع الرؤساء المهزومين الذين خدموا مرة واحدة فقط, وهى ليست قائمة شرف بالنسبة لرجل يريد الفوز وعشقه طيلة حياته.
لقد أصبح الرئيس العاشر فى تلك القائمة عبر تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية وهم: جورج بوش الأب الذى خدم مرة واحدة, وجيمى كارتر وجيرالد فورد وهيربرت هوفر ووليام هوارد تافت وبنجامين هاريسون ومارتن فان بيورين جون كويتسى آدامز وجون آدامز.
إنها قائمة عار تاريخى بالنسبة لترامب الذى لم يتعود الهزيمة ويكره المهزومين كما قالها مرارا وتكرارا فى تشخيص عداوته للسيناتور المحبوب الراحل جون ماكين والذى يعتبره الأمريكيون بطلا كونه من عائلة عريقة عسكريا فى ولاية أريزونا. كان يقول أنا لا أحبه لأنه أسر فى حرب فيتنام وأنا لا أحب الذين يؤسرون. قالها أيضا عندما رفض زيارة مقابر العسكريين الأمريكيين بالقرب من باريس عام 2018, والذين قتلوا فى الحرب العالمية الثانية فى فرنسا ووصفهم بالخاسرين لأنهم قتلوا وأنه لا يحب الخاسرين.
إنها الانتخابات الكبيسة التى خسر فيها الحزب الجمهورى الرئاسة ومجلس النواب وعلى وشك أن يفقد الأغلبية فى مجلس الشيوخ عندما تحدث الإعادة فى يناير المقبلين بين اثنين من المرشحين لمجلس الشيوخ فى ولاية جورجيا.
إذا ما حدث وفازا ستكون ضربة كبرى للحزب الجمهورى مماثلة لهزيمة ترامب حيث توجد فرصة لتحقيق ذلك. سيذكر التاريخ له أنه أطلق العنان لكل الجماعات العنصرية لتخرج من جحورها وخصوصا الجماعات العنصرية المؤمنة بالاستعلاء الأبيض وتؤسس الترامبية فى أمريكا.
أقسى الأمور وأحزنها على ترامب ما أعلنه بايدن أنه سيلغى فى يومه الأول للحكم العديد من قرارات ترامب ومنها اتفاقية باريس للمناخ وقرار حذر دخول رعايا سبع دول إسلامية وقرارات هجرة أخرى.
لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى جودة رابط دائم: