لم أكن أتخيل أنه سيأتى يوم أقف فيه وجها لوجه أمام شخصية تاريخية بهذا القدر.
سام نيوما، أو سام «نجوما»، كما اعتدنا أن نسمع اسمه فى نشرات الأخبار قديما، بجانب أسماء نيلسون مانديلا وروبرت موجابى وتشى جيفارا، زار القاهرة مؤخرا، واستقبله الرئيس السيسى فى «الاتحادية»، قبل أن يشارك فى الحفل السنوى الذى أقامته مؤسسة «كيميت بطرس غالى لأبحاث السلام والمعرفة»، ويتم تكريمه بجائزة «الإنجازات الرائعة»، تقديرا لنضاله من أجل الحرية، ودوره فى وقف النزاعات الإفريقية بالطرق السلمية، وفى تقوية التعاون من أجل السلام بين الحضارات.
نيوما لمن لا يعرفه من الأجيال الجديدة هو قائد حركة التحرر ضد الاستعمار والتمييز العنصرى فى ناميبيا، تلك الدولة الواقعة فى أقصى جنوب غرب القارة الإفريقية، والتى كانت واحدة من بضع دول إفريقية مثل جنوب إفريقيا وزيمبابوى «روديسيا العنصرية» عانت سياسات الفصل بين المستعمر الأبيض وأصحاب الأرض من السود.
وعلى الرغم من أن ناميبيا دولة كبيرة نسبيا من حيث المساحة، فإن العالم لم يعرفها إلا من خلال اسم سام نيوما، فهو أيقونة إفريقية، و«كل شيء» فى ناميبيا تقريبا، تماما مثلما كان مانديلا فى جنوب إفريقيا المجاورة.
وفى عصرنا الحالي، لا يمكن الحديث عن النضال والكفاح والثورة ضد الاستعمار فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية دون الإشارة إلى أسماء بعينها مثل غاندى وجمال عبدالناصر والثلاثى تشى جيفارا ونيلسون مانديلا وسام نيوما، هذا بالطبع قبل أن يأتى علينا زمن تتحول فيه الثورة إلى «تثور»، والنضال إلى «مهنة» و«سبوبة» وستار للعمالة والخيانة لحساب دول وجهات مشبوهة.
أما جيفارا، فقد مات «موتة رجال» على رأى أحمد فؤاد نجم، وصار ملهما لثورات أمريكا اللاتينية ودول العالم الثالث للأبد لفترة طويلة، قبل أن يصبح مجرد صورة على «تيشيرت»، ويتحول شعره المنكوش إلى «موضة»!
موجابى حارب من أجل استقلال بلاده، ولكنه تشبث بالسلطة 37 عاما، إلى أن أجبرته الظروف الداخلية المتردية على الرحيل، ليموت منسيا فى مستشفى بسنغافورة العام الماضى عن 95 عاما.
أما مانديلا وسام نيوما فكانا أسعد حظا فى حياتهما، فقد خرج مانديلا من سجنه بطلا، ليصبح أول رئيس لجنوب إفريقيا، بجانب الزعيم «الأبيض» فرديريك دى كليرك، ومات مرفوع الرأس فى 2013، وودعته شعوب العالم بالدموع، وسار فى جنازته أكثر من ثمانين رئيس دولة، بينما أصبح سام نيوما بعد الاستقلال الزعيم المؤسس لناميبيا، وأول رئيس لها، وظل فى منصبه من 1990 إلى 2005، وعلى الرغم من أن عمره الآن 91 عاما، فإنه ما زال يمارس دورا مهما كأحد حكماء القارة الإفريقية فى تعزيز السلام والحوار لحل النزاعات القارية.
فى لقائه الرئيس السيسي، بحث الزعيمان القضايا الإفريقية المختلفة، بما فيها قضية سد النهضة، وأشاد سام نيوما كثيرا برئاسة مصر للاتحاد الإفريقى العام الماضي، وأيضا بالدور التاريخى الذى قامت به لدعم حركات التحرر الإفريقية فى القرن الماضي، وبخاصة فى بلاده، عندما كان يتزعم منظمة وحزب «سوابو» الذى قاد النضال ضد التمييز العنصري، وحتى الاستقلال.
ولكن فى الكلمة التى ألقاها سام نيوما فى حفل «كيميت»، والتى قطعتها الزغاريد الإفريقية التقليدية ابتهاجا بوجود هذا الزعيم الكبير، أعجبنى الرجل، عندما تحدث بحكم خبرته ومكانته عن رؤية واضحة تجاه القضايا الإفريقية الحالية، وبخاصة مشكلة سد النهضة، فهو من أنصار إيجاد «حلول إفريقية للقضايا الإفريقية»، وهو ما سبق أن تبنته مصر شكلا ومضمونا، شكلا فى فترة رئاستها الاتحاد الإفريقي، ومضمونا بقبولها إجراء مفاوضات سد النهضة مع السودان وإثيوبيا تحت مظلة الاتحاد الإفريقي، حتى وإن لم تؤت هذه المفاوضات النتائج المرجوة منها حتى الآن.
وأعجبنى أكثر عندما قال بوضوح، وهو يتحدث على المنصة صلبا واقفا على قدميه، وبلغة إنجليزية سليمة وحاسمة، إنه يأمل فى حل مشكلة سد النهضة بين الدول الثلاث عبر الحوار والتفاوض، وفى إطار الاتحاد الإفريقي، شريطة أن يكون الحل مرضيا لجميع الأطراف، وليس لطرف دون آخر، واستخدم فى ذلك مصطلح Win-Win، أى الحل الذى يحقق مكاسب للكل، وليس لطرف دون آخر.
وبالتأكيد، فما قاله «الثائر الحق» أو آخر ثوار هذا الزمان كان رسالة واضحة من قلب القاهرة إلى قادة إثيوبيا المغرورين المرتبكين الذين يتلاعبون بمشاعر الشعوب، ويحاولون تأجيج مشاعر عنصرية مضادة بغيضة!
شكرا سام نيوما!
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: