الملامح غير واضحة، والتحديات هائلة وغير مسبوقة، أما المنفذون، فما زالوا غير معروفين بعد.
فعلى الرغم من أن الرئيس الأمريكى المنتخب جو بايدن فاز فى انتخابات رئاسية يمكن وصفها بـ«الكونية»، وعلى الرغم من أن فوزه كانت له أصداء عالمية كثيرة متفائلة، بعد ولاية دونالد ترامب المثيرة للجدل، فإن أبرز ملامح سياسات بايدن الخارجية، ما زالت تتسم بالقدر نفسه من الغموض الذى أحاط بها طوال حملته الانتخابية، إما لأن ملف السياسة الخارجية كان متراجعا - كالعادة – فى ترتيب أولويات الناخب الأمريكي، أو بسبب صعوبة التحديات و«الإشكاليات» التى خلفتها إدارة ترامب على الصعيد الخارجي، فى صورة سياسات وقرارات صعبة، بعضها يصعب التراجع عنه، والبعض الآخر يصعب تعديله، وهو ما ظهر جليا فى امتداد هذا الغموض إلى قائمة أسماء المرشحين لشغل منصب الدبلوماسى الأول فى إدارة بايدن.
أما عن قائمة المرشحين لشغل منصب وزير الخارجية، فقد تصدرتها سوزان رايس مستشارة الأمن القومى فى عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، إلا أن تقرير مجلة «فورين بوليسى» الأخير عن «رجال» و «نساء» إدارة بايدن المحتملين تناول الحديث عن أسماء أخرى مرشحة.
ويشير التقرير إلى أن رايس كانت مرشحة فى السابق بالفعل لخلافة وزيرة الخارجية السابقة هيلارى كلينتون فى ولاية أوباما الثانية، ولكن تم التراجع عن الفكرة بعد هجمات بنغازى الإرهابية عام 2012.
ويتردد أيضا اسم أنتونى بلينكن لتولى منصب وزير خارجية بايدن، باعتبار أنه أحد كبار أعضاء فريق أوباما للسياسة الخارجية، كما أنه حاليا من أقرب مستشارى بايدن، وسبق له العمل فى مجلس الأمن القومى فى إدارة الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ثم كان عضوا بارزا فى لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ عندما كان بايدن رئيسا لها، وينظر إليه كثيرون على أنه اختيار «وسطى» لمنصب وزير الخارجية، ولكنه قد يصبح مستشارا للأمن القومى، فى حالة تفضيل اسم رايس لوزارة الخارجية.
ومن بين المرشحين أيضا لمنصب وزير الخارجية السيناتور كريس ميرفى، عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، وصاحب الصوت القوى فى مجال السياسة الخارجية، وسبق له أن أعد وقدم رؤية خاصة به للسياسة الخارجية الأمريكية عام 2017 فى ظل إدارة ترامب، وهو يتميز بأن لديه قدرة إقناع فائقة تضمن الحصول على أصوات عدد كبير من الجمهوريين لسياساته ورؤيته، وبخاصة فيما يتعلق بأسلوب التعامل مع الصين وروسيا، وهنا تجدر الإشارة إلى أن من بين ما نادى به ميرفى هو سرعة إنهاء الدعم الأمريكى للتحالف الذى تقوده السعودية فى اليمن، وهو قرار بالمناسبة، يعد متوقعا فى ظل إدارة بايدن بصفة عامة، مهما كان اسم وزير الخارجية الجديد.
ومن المرشحين أيضا للمنصب، السيناتور كريس كونز، عضو لجنة العلاقات الخارجية فى «الشيوخ»، والذى يرتبط هو الآخر بعلاقات قوية ببايدن، وتحظى آراؤه فى مجال السياسة الخارجية باحترام كبير، حتى من الجمهوريين أنفسهم.
وتم أيضا تداول أسماء أخرى مثل سامانتا باور سفيرة واشنطن السابقة لدى الأمم المتحدة، والسيناتور الجمهورى مات رومنى، وويليام بيرنز وكيل وزارة الخارجية سابقا، والأخير صاحب خبرات دبلوماسية هائلة، وبخاصة فى منطقة الشرق الأوسط.
هذا عن الأسماء، ولكن ماذا عن الملامح الرئيسية، والتحديات التى سيواجهها بايدن على صعيد السياسة الخارجية؟
هذا ما تناولته صحيفة «واشنطن بوست» فى تقرير لها كتبه جينيفر روبن بعنوان «خمسة تحديات كبرى تواجه فريق بايدن للسياسة الخارجية».
فقد اعترف الكاتب أولا بأن السياسة الخارجية لم تشغل حيزا كافيا فى حملة بايدن الانتخابية، ولا حتى طوال حياته السياسية، ولكنه عاد ليؤكد أن بايدن من السياسيين الذين يؤمنون عامة بأهمية الدبلوماسية، بما فى ذلك اقتناعه بضرورة ارتباط الولايات المتحدة بشبكة قوية من الحلفاء على الساحة الدولية. ويقول الكاتب إن بايدن سيفاجأ فور دخوله إلى البيت الأبيض فى 20 يناير المقبل بأن أمامه وزارة خارجية شبه منهارة، بسبب انخفاض معنويات العاملين بها، والهروب الجماعى لأصحاب المواهب الدبلوماسية والخبرات العالمية فى ولاية ترامب، كما سيجد بايدن نفسه مطالبا بإصلاح كثير من السياسات الخاطئة، سواء تصحيح مسار العلاقات، سواء استعادة التعاون مع المنظمات الدولية، مثل «الصحة العالمية»، أو مع أوروبا، أو مع حلفائه الآسيويين، فضلا عن طريقة التعامل مع الأنظمة «غير الليبرالية»، مثل تركيا، بحسب كاتب المقال.
وسردت «واشنطن بوست» التحديات الخمسة الرئيسية فى مجال السياسة الخارجية فى عهد بايدن، فتحدثت عن: إيران، والصين، والشرق الأوسط، وسياسة «أمريكا أولا»، وإزالة آثار عدوان ترامب فى مجال السياسة الخارجية.
أما بالنسبة لاتفاق إيران النووى، الذى عزل واشنطن عن حلفائها، وألقى بإيران بين أحضان روسيا والصين، وجعل طهران غير ملزمة بشىء، لا على الصعيد النووى، ولا على صعيد ممارساتها الداخلية، فمن المتوقع أن يعمل بايدن على إعادة إحياء هذا الاتفاق فى أسرع وقت ممكن، وربما بشروط جديدة، لضمان الالتزام الإيرانى، نوويا، وسياسيا.
وبالنسبة للتحدى الثانى، فمن المتوقع أن يلجأ بايدن إلى ممارسة نوع من الضغط المعنوى على بكين فيما يتعلق بقضية هونج كونج مثلا، وبخاصة عبر إصدار قرارات وبيانات من مجلس الشيوخ تجاه هذه القضية، من أجل الحصول على أفضل المكاسب من الجانب الصينى على الصعيد التجارى، ولكنه يحتاج فى ذلك إلى جهد دبلوماسى لتشكيل جبهة موحدة من الحلفاء، حتى يضمن موقفا قويا فى مواجهة الصين.
أما التحدى الثالث، فهو حاجة بايدن إلى تحديد أهدافه فى الشرق الأوسط بوضوح، بعد انهيار مشروع «الربيع العربى»، وتردى الأوضاع فى سوريا واليمن وليبيا والعراق، وزيادة النفوذ الإيرانى فى مناطق متفرقة، وذلك على الرغم من حدوث تطور إيجابى على صعيد العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل وعدة دول عربية. ويتوقع كاتب المقال فى هذا الصدد ألا ينتهج بايدن نفس السياسات الحادة التى اتبعها باراك أوباما، لأنه يسعى فى النهاية إلى الوصول لشرق أوسط مستقر، واصفا بايدن بأنه ليس متشددا فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، كما أنه ليس متعجلا لسحب القوات الأمريكية من العراق وأفغانستان.
(ملاحظة: تحدث كاتب المقال عن عدة دول شرق أوسطية تتبنى سياسات غير ليبرالية يحتاج بايدن للتعامل معها، وسردت أمثلة لهذه الدول، لم يكن من بينها مصر).
أما التحدى الرابع، فهو حاجة بايدن إلى دبلوماسية عامة جديدة، يشرح فيها للأمريكيين مبادىء سياسة خارجية واضحة تحل محل سياسة «أمريكا أولا» التى اتبعها ترامب، بحيث يوضح لهم: لماذا يرتبط ازدهار أمريكا بوجود دور قوى لها عالميا، وبعودة نفوذها ودورها فى المنظمات العالمية، ولماذا تفضل واشنطن التعامل مع أنظمة ديمقراطية لا أنظمة شمولية، ولماذا ترسل أمريكا قوات للخارج.
والتحدى الخامس والأخير، حسب تقرير «واشنطن بوست»، يتعلق بضرورة محو وتحسين الصورة الذهنية السيئة التى لحقت بالولايات المتحدة خارجيا بسبب عدم اعتراف ترامب حتى الآن بنتائج الانتخابات، واتهامه للإعلام الأمريكى على أنه «عدو الشعب»، وظهور البلاد بصورة المنتهك لحقوق الإنسان والأقليات والمهاجرين، وهو ما شجع دولا كثيرة على التخلى عن إصلاحاتها الديمقراطية والحقوقية فى الداخل، لعدم وجود دور معنوى وأخلاقى تقوم به الولايات المتحدة من جانبها.
ويختتم كاتب التقرير حديثه بالقول إن أجواء الاحتفالات العالمية بفوز بايدن تؤكد سعادة المجتمع الدولى ومعظم دول العالم بالعودة الأمريكية على الساحة الدولية، وهو ما ستكون له مدلولاته.
وفى الحديث عن التحديات أيضا، يقول ريك جلادستون فى «نيويورك تايمز» إنه بالنسبة لتحديات السياسة الخارجية، فإن بايدن يواجه سلسلة كبيرة من التحديات الخارجية، على رأسها السياسة تجاه الصين، ويعترف كاتب التقرير بأن بايدن سيحتاج إلى وقت طويل لإصلاح ما أفسده ترامب على صعيد السياسة الخارجية.
وفيما يتعلق بالشرق الأوسط، يشير التقرير إلى أن بايدن سيبدأ عمله بالتحذير من الفشل الذريع الذى تسببت فيه سياسات ترامب حيال إيران، وسيعمل على إنهاء هذا الوضع، أملا فى الحصول على التزام إيرانى أفضل بالشروط النووية، خاصة أن إيران نفسها فى أمس الحاجة إلى الاتفاق، وهو ما يؤكده كليف كابتشان رئيس مجموعة «أوراسيا» لأبحاث المخاطر السياسية. إلا أن التقرير يعترف بأن التقارب مع إيران سيغضب حلفاء واشنطن الرئيسيين فى الشرق الأوسط، وخاصة إسرائيل، التى حققت الكثير من المكاسب فى عصر ترامب، وبخاصة إقامة علاقات طبيعية مع دول عربية، كما أن بايدن لديه رأى معروف معارض لإقامة مستوطنات إسرائيلية على الأراضى الفلسطينية المحتلة، لاقتناعه بحل الدولتين، وسيسعى أيضا لاستعادة العلاقات مع السلطة الفلسطينية، ولكنه مع ذلك، لن يمس بقرار ترامب بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة. ويتوقع التقرير أيضا أن يسعى بايدن إلى تهدئة التوتر مع الدول الإسلامية عبر إلغاء قرارات ترامب بحظر سفر المسلمين من عدة دول إلى الولايات المتحدة. وستكون أمام بايدن تحديات أوروبية كبيرة، بحسب التقرير نفسه، فبعد أن أهمل ترامب حلفاءه الأوروبيين، وشجع الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبي، يتبنى بايدن سياسات مغايرة، فهو يؤيد - مثل أوباما - إقامة علاقات قوية مع أوروبا، وسيجدد معارضته لــ «البريكست»، وهو ما سيتسبب فى إضعاف رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون سياسيا، خاصة أن الأخير كان يعتزم إبرام اتفاق تجارى مع ترامب، بينما لن يجد بايدن نفسه مضطرا لاتخاذ قرار متعدل فى هذا الاتجاه.أما التهديد النووى لكوريا الشمالية، فبعد إقامة علاقات صداقة بين ترامب والزعيم كيم جونج أون، ونجاحه فى تجنيب شبه الجزيرة الكورية حربا نووية، ولو مؤقتا، سيجد بايدن نفسه مضطرا إلى انتهاج سياسة مغايرة تماما لإجبار بيونج يانج على التخلى عن أسلحتها النووية، ولكنه سيواجه فى ذلك تحديات بالغة الصعوبة.
رابط دائم: