لم أشهد الفلقة، أو «الفلكة»، فى بعض الروايات، ولكننى من جيل عاصر «الشبشب» والمسطرة والحزام الجلد، وعقوبات تأديبية أخرى متنوعة مثل النوم من غير عشاء ووقف المصروف وإلغاء «خروجة» الجمعة.
كان البيت يربي، ويؤدب، وكانت المدرسة تعلم وتؤدب وتربي.
فى البيت علمونا نقول للكبير «حضرتك»، وليس «انت»، علمونا نقول «أبيه»، و«أبله»، للأخ أو الأخت الأكبر، أو أى فرد من أفراد العائلة، أو الجيران الذين يكبروننا سنا.
علمونا ألا نتحدث بصوت مرتفع أمام أحد، ولا نضع قدما على قدم عند الجلوس، وألا نطلب شيئا من أحد دون أن نقول له «من فضلك»، أو «بعد إذنك».
علمونا ألا نطلب شيئا عند الضيوف، ولو سألونا ماذا تشرب، فلنرفض بأدب وتعفف، وإذا كان لابد، فالاختيار والقرار للأم أو الأب، وليس لنا، ذوقا وتأدبا وحياء.
علمونا أن مشاهدة التليفزيون فى أوقات معينة، فقط بعد انتهاء المذاكرة، والذهاب للسينما يكون عائليا فقط، ومرة واحدة فى الأسبوع، أو فى الشهر، والفيلم من اختيار الكبار، لا الصغار.
علمونا النوم مبكرا، والاستيقاظ مبكرا، فالسهر و«السرمحة» فى الشوارع ليلا والأكل «البراني» كانت لمن تضطره ظروف عمله فقط لذلك، فضلا عن اللصوص والمشردين وأرباب السوابق، والشباب «التلفان».
حتى عند الخروج، يرتفع «شبشب» الأم إلى أعلى بعد الثامنة مساء، لأن التأخير معناه أنه «فيه حاجة غلط».
علمونا أن هناك اثنين إذا رأيتهما فى الشارع أمامك، فمن الأفضل أن تمشى فى شارع آخر، وهما: المدرس، ورجل الشرطة!
أما المدرسة، فكانت أشد وأعنف وأشرس فى موضوع «التربية».
كنا نقف مثل العساكر فى طابور الصباح نردد تحية العلم، والأناشيد الوطنية، ويا ويلك يا سواد ليلك، لو مر عليك الناظر أو المدرس فى الطابور وأنت تقف «متقصعا»، أو تصدر صوتا، أو لا تردد الأناشيد بحب وحماس. كان التفتيش يتم يوميا على التلاميذ، للتأكد من أن الشعر محلوق جيدا، والأظافر مقصوصة، والحذاء يلمع، والقميص والبنطلون نظيفان ومكويان، والأسنان ناصعة البياض!
وبالنسبة للبنات، فاللبس القصير ممنوع، وفرد الشعر مرفوض، فقط «كحكة» أو «ضفيرة»، والمكياج على الوجه جريمة تستحق العقاب، والضحك و«المياصة» فى الطابور أو فى الفصل أو فى غير أوقات الفسحة «كارثة» تضر بسمعة البنت أمام زميلاتها ومدرساتها.
أما عن العقاب فلا تسل.
شاهدت بنفسى الحبس فى «أوضة الفيران»، وهى عبارة عن حجرة قديمة أو مظلمة يوضع فيها لبضع ساعات التلميذ المعاقب.
شاهدت الضرب بالمسطرة الخشبية الـ40 سم التى كانت «تلسوع» ولا تنكسر أبدا، وكان الضرب بها مباحا فى أى مكان، على باطن كف اليد، أو على الأرجل أو الذراعين، وبعدد ضربات متفق عليه لكل عقوبة ولكل جرم. وكانت «السادية» تصل ببعض المدرسين لدرجة أنه كان يضرب بهذه المسطرة على عظام ظاهر اليد، وأحيانا يكون الضرب «بسن المسطرة»، يعنى إيذاء حقيقيا، ومع ذلك، لم يكن هناك أم أو أب يجرؤ على الذهاب لمدرسة ابنه أو ابنته لـ«الشرشحة» والدفاع عن أى منهما، ولم تكن هناك جروبات «ماميز» و«داديز» وفيسبوك ومسخرة، وكان مجرد استدعاء ولى أمر تلميذ «فضيحة» للتلميذ وأهله.
أذكر ذات مرة أن تلميذا معنا فى الفصل قال لفظا خارجا فى الفسحة، وسمعه المدرس، وكان لفظا يعد «عاديا» بمقاييس أيامنا «الغبرة» هذه، وعلى الفور، صدر ضده قرار بالفصل، ولم يستطع والده الثرى فعل أى شيء سوى البحث له عن مدرسة أخرى تقبله من جديد، وهو بهذه السمعة السيئة!
وكانت فى المدرسة عقوبات جماعية تأديبية، فكان انتشار القمامة وأكياس السندويتشات على أرض فناء المدرسة بعد الفسحة سببا كافيا لكى يثور غضب الناظر، ويتخذ فرمانه بأن يتولى التلاميذ «لم الزبالة» بأنفسهم، ليعود الفناء نظيفا!
عند نكبة يناير 2011، عايرونا بأننا الجيل الذى تربى على القمع، وقول «نعم»، والرضوخ للقوانين والسلطة والأب و«الكبير»، ومرت الأيام، ولم ينتج جيلهم أى عظماء، ولا أشباه عظماء، بل رأينا القوانين تنتهك، والكبير يهان، والأَمَة تلد ربّتها، وثبت لنا الفارق الشاسع بين تربية ولا تربية، بين أخلاق ولاأخلاق، بين نبتة طيبة ونبتة «منيلة بنيلة»، بين زمن كان فيه رب الأسرة يدفن نفسه «بالحيا» إذا ارتكب ابنه جرما بسيطا، وزمن يفخر فيه رب الأسرة بأنه فاسد، بل يعلم ابنه كيف يصير فاسدا، و«عملا غير صالح»!
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: