لماذا تبكون علي الذى فاز وحقق الإنجاز فى حياته, على من تمتع ببركاتها وأدى فيها بإخلاص عمله, ثم بسكينة رحل الى مثواه الأخير...
هذه الكلمات للشاعر الأمريكى وليام كولن برايانت من قصيدة له بعنوان: جنازة الرجل العجوز, والتى كتبها عام 1824. تذكرتها وأنا أرى صفحات الفيسبوك تنعى وتتألم بحق لموت محمد فريد خميس. نعم تألمت مثلهم وذرفت الدموع عندما اتصل بى صديقى الدكتور مصطفى الفقى, الرئيس المؤسس للجامعة البريطانية ليعزينى فى موته مثلما يعزى أفراد الأسرة فقيدا عزيزا عليهم. عملت معه اثنى عشر عاما وعرفت عنه الكثير. كان مصريا خالصا ووطنيا لدرجة التطرف. عندما ذهبت للقائه أول مرة شاكيا له أن الإنجليز فى الجامعة البريطانية يصرون على أن يكون عميد الهندسة منهم, وأن الأمر يكاد يكون عنصريا ويتجاوز الكفاءة وأنه عار أن نعانى مثل هذا الأمر فى وطننا ونحن أكثر كفاءة وتعليما منهم. أجابنى أن هذا لن يحدث وظل يجرى اتصالات وخرجت من عنده آخذا حقى وراضيا بأن الوطن بخير. منذ تلك اللحظة كان عملى معه مثل حمل الأمانة الثقيلة وأن الحود عنه ولو قليلا خيانة. كان قويا ولم يعرف إلا الجودة فى الصغيرة والكبيرة. كان دقيقا مثل الساعة الرولكس, وكان قاسيا مع كل متراخ عن قصد.
أسجل له فى ذاكرتى كثيرا من الحكايات والأشياء البسيطة ذات المغزى العميق والتى تعكس كثيرا من جوانب شخصيته الرقيقة. حدث فى أحد الاجتماعات أن لاحظ أن عامل البوفيهكان بطيئا ويكاد يكون معطلا للاجتماع, فنهره وابدى انزعاجه منه وذكر أنه سيعاقبه. عندها قال العامل بصوت مسموع: ماتقدرش. فأجابه بغضب أكثر ولماذا لا أقدر؟. قال العامل سأشكوك لأمك فأنا أسكن بالقرب منها. عندها سكن الغضب عن فريد وقال: فعلا (مأقدرش), وطمأن العامل الذى خرج منتصرا على فريد وسط كل الحشد الحاضر. كان الجميع يعلم أنه يمر على أمه يوميا قبل موتها ويقبل يديها ويسألها الدعاء. عندما ماتت, رحمها الله, كان يبكى عند دفنها مثل رضيع فارق أمه.
حكاية أخرى تدل على محتواه الإنسانى. عندما ذهب إليه وفد من سكان مدينة العاشر من رمضان يطلبون منه التوسط عند وزير النقل ليخصص بعض السيارات لنقل أولادهم وبناتهم الى جامعات القاهرة وعين شمس والزقازيق وأنهم يخشون على بناتهم من العودة ليلا. اندهش القوم عندما أجابهم: لن أتوسط. ثم واصل كلامه معهم: بناتكم بناتى وأولادكم أولادى ومن الغد سيكون هناك أسطول لنقل أولادكم وبناتكم, وهو الأمر الذى لا يزال ساريا لخدمة سكان العاشر من رمضان التى يحبها والتى تحوى مصانعه الكبرى مثل النساجون الشرقيون وماك, والتى يعمل بها عشرات الآلاف من المصريين, والتى تصدر الكثير للعالم كله وتدر عملة صعبة للاقتصاد المصرى. إنه لا يستثمر إلا فى المصانع الكثيفة العمالة, مساهمة منه فى حل أزمات البطالة. فى كل عام كان يسافر ليتسلم الجائزة الأولى على العالم كله لتصنيع السجاد. إذا ما أتيح لك زيارة تلك المصانع ستجد بها كل الإيفاء بمعايير الجودة والسلامة المهنية والأمان والنظافة والنظام ربما أكثر من أى مصنع مماثل فى العالم كله.
عندما اقتحم فريد مجال التعليم, أراد أن يكون متميزا مثلما هو متميز فى مجال الصناعة فبنى أكاديمية الشروق والجامعة البريطانية فى مصر, وأنشأ مؤسسة محمد فريد خميس لتقوم بكثير من الأعمال فى مجال التعليم والبحث العلمى ولتقوم أيضا برعاية أوائل الثانوية العامة طيلة مدة دراستهم. كان حديثه الدائم أن يرى الجامعة البريطانية ضمن أفضل خمسمائة جامعة فى العالم. كان الجميع يقول له إن الأمر صعب التحقيق لأن الجامعة وليدة وتحتاج زمنا طويلا لتحقيق حلمه. لم يرض أبدا بهذا التفسير, وظل يلح على الجميع. لم تتحقق أمنيته تلك فى حياته, وعسى أن يعمل أولاده على تحقيقها بعد موته. كتب عنه حسين مؤنس فى كتابه الموسوعى, جيل الستينيات, الهيئة العامة للكتاب, 1993, والذى سجل فيه بطريقة موسوعية شاملة أهم شخصيات جيل الستينيات فى مصر فى كل المجالات, وأفرد فيه صفحات عن فريد خميس والإبداع العالمى فى صناعة السجاد ودوره فى بناء صرح صناعى عالمى على أرض مصر.
لم أتمالك نفسى عقب سماع نبأ وفاته, فكتبت رثاء أحاول فيه تهدئة الحزانى عليه كان عليه رحمة الله الواسعة, كان مفيدا لوطنه ولافراده.كان مثل الاشجار المثمرة التى توتى دائما اكلها كل حين.ادعوا له لا تحزنوا عليه واذكروا اعماله الطيبة وعطاءه.
لا تحزنوا على رجل يحبه كل الفقراء ويبادلهم حبا وعطاء.كان شمعة تضىء وتقاوم الفناء.لا تغضبوا لانه كان أسدا عن عرينه دائما مدافعا وصقرا دائما منقضا. هى حكمة المولى ان يمن بمثله على الأوطان لتستقيم الحياة ويهون الزمان. ألم يقل خير الأنام: المؤمن القوى خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف. لا تلوموا قوته وتنقدوا بعض أفعاله. كانت العزيمة تقوده وكأنه يلمح العظمة على مرمى بصره. كان يعيش أيامه كأنه سيعيش أبدا. تلمحه كأن بداخله رغبات حارقة تقوده. دائما يحاول التفوق على نفسه. دائما يتغلب على صعابه. لا يهرب أبدا من أزماته. عاش التميز فى كل أمره وعاف العجز فى كل صوره.
كان محبا لأحفاده واولاده وكل اهله, وراعيا للقدماء من أصدقائه. دائما بصحبته. مات الصانع الاول والمكافح الكبير والمتحدث المتمكن والحامل هموم وطنه. عندما كان يلقى خطابه السنوى أمام الخريجين كان دائما يحاول أن يلهمهم ويبث فيهم القوة الدافعة لمواجهة كل الصعاب التى ستواجههم فى رحلة حياتهم. لم يكن يقول لهم كلاما منمقا ولكن من قلبه وتجربته يحدثهم.
اذكروه وادعوا له برحمة ربه. كان نموذجا وكان بسيطا وكان قدوة وكان صانعا للتطور قلما يجود الزمان بمثله.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: