بتاريخ 1832, أرسل محمد على البعثة الرابعة له وهى المعروفة ببعثة الطب والصيدلة الى فرنسا وعدد أعضائها إثنا عشر مبعوثا تم إختيارهم من مدرستى الطب والصيدلة فى مصر بعد أن أتموا علومهم بها وكان بصحبتهم كلوت بك, الذى كان يتولى زمام مدرسة الطب. امتحنتهم الجمعية الطبية بباريس فنجحوا نجاحا غير مسبوق من قبل. حضر ذلك الامتحان عظماء فرنسا وعلماء الجمعية الطبية الملكية فأسفر هذا الامتحان عن نجابة هؤلاء الطلاب وعلو همة أساتذتهم فى مدرسة الطب بأبى زعبل وكانت الأسئلة التى وجهت إليهم باللغة الفرنسية وكانت إجاباتهم باللغة الفرنسية أيضا,لأنهم كانوا يتعلمونها فى مصر.
........................................
كانت نتيجة الامتحان مذهلة وأظهرت أن هؤلاء الشبان وصلوا إلى درجة تفوق درجة الطلاب الفرنسيين. إنها تكاد أن تكون معجزة أن ينالها طلاب مصريون خريجو أول دفعة لمدرسة طب أنشئت قبلها بخمس سنوات لأول مرة.
نشر كلوت بك فى كتابه «لمحة عامة» على مصر، تفاصيل الامتحان الذى تم فى 18 نوفمبر 1832 للاثنى عشر تلميذا المتخرجين من مدرسة أبى زعبل وسرد فيه بالتفصيل جميع الأسئلة التى وجهت إليهم وكيف أنهم نالوا رضا وإعجاب لجنة الامتحان والحضور الكثيف الذى كان يشمل العلماء والنبلاء. بعض الأسئلة التى وجهت إليهم كانت تعجيزية ولكنهم تمكنوا من الإجابة على كل ما وجه إليهم من أسئلة، وتم بعدها الثناء عليهم وعلى مصر وحضارتها. هؤلاء الطلاب أصبحوا فيما بعد رواد الطب والصيدلة فى مصر،أصبحوا علامة مهمة فى تاريخ الطب الحديث وكانوا قدوة تدل على عظمة مصر وعظمة الإنسان المصرى عندما تتاح له الفرصة والإمكانيات. لقد أسهم هؤلاء عبر تاريخه من بعدها فى أن يكون الطب المصرى على مستوى الطب فى أوروبا. هؤلاء الطلاب هم: إبراهيم النبرواى ومحمد الشباسى ومصطفى السبكى أحمد الرشيدى وعيسوى النحراوى حسين غانم الرشيدى ومحمد على البقلى ومحمد ومحمد الشافعى ومحمد السكرى وحسين الهيهاوى ومحمد منصور وأحمد بخيت.
من الأهمية بمقام أن نقدم ملخصا لتلك السير العطرة لندرك عظمتهم، ولندرك أيضا عناية محمد على وأسرته من بعده بهم وتصنيعهم كنخبة تخدم أهدافهم فى نهاية الأمر. كتب على مبارك فى الصفحة الرابعة من الجزء السابع عشر من الخطط التوفيقية عن إبراهيم النبراوي: «.. أدخله أهله مكتب بلده تعلم فيه الخط وبعض القراءة ثم تعلق بالبيع والشراء وترك المكتب فأرسلوه إلى المحروسة ليبيع بطيخا فلم تربح تجارته بل لم يحصل رأس المال فخاف من أهله ولم يرجع إليهم ودخل الأزهر واشتغل بالقراءة وفى تلك المدة طلب من الأزهر شبان برغبتهم لتعلم الحكمة، فرغب النبراوى ودخل مدرسة أبى زعبل فأقام بها مدة وترقى إلى رتبة ملازم ثم تعلقت الإرادة السنية بإرسال جماعة إلى بلاد فرنسا ليتقنوا فنون الحكمة فانتخب فيمن انتخب للسفر فسافر هو والمرحوم مصطفى السبكى والمرحوم محمد على البقلى وغيرهم فنجبوا فى ذلك الفن وحضروا إلى مصر وترقى هو إلى رتبة يوزباشى بوظيفة خوجة بمدرسة الطب فى قصر العينى ثم بعد قليل أحسن إليه برتبة صاغ ولنجابته وحسن درايته فى فنه اختاره العزيز محمد على لنفسه وقربه وتخصص به وبلغ رتبة أميرالاى وكثرت عليه اغداقات العزيز وانتشر ذكره وطلبته الفامليات والأمراء ولم يزل مع العزيز وسافر معه إلى البلاد الأوروبية، وانتخبه أيضا المرحوم عباس باشا حكيمباشى له بعد جلوسه على التخت واختارته والدته أيضا للسفر معها إلى الحج الشريف، ومنحته بعد وفاة زوجته الفرنسية جارية تزوجها وأنجب منها. وبعد أن عاش مدة منعم البال مترف الأحوال نزل به داء الربو فتوفى به بعد تسع وسبعين. له ترجمة كتاب فى الأربطة وكانت وفاته عام 1862م».
ظلت إدارة مدرسة الطب يتولاها الأجانب منذ 1827 وحتى 1845. تولى إدارتها بالتتابع كلوت بك ثم الدكتور دفينو ثم الدكتور بروان ثم الدكتور النبراوى.
ذكر جمال الشيال فى كتابه تاريخ الترجمة والحركة الثقافية فى عهد محمد على أن إبراهيم النبراوى قام بترجمة ثلاثة كتب لكلوت بك هي: نبذة فى الفلسفة الطبيعية ونبذة فى التشريح العام ونبذة فى التشريح المرضى طبعتها مطبعة بولاق فى مجلد واحد سنة 1837 وفى 1838 طبعت له مطبعة بولاق ترجمة كتاب الأربطة الجراحية. له فصل فى قاموس طبى مترجم من الفرنسية أحضره كلوت بك من فرنسا لمؤلفه فابر وهو من ثمانية أجزاء ويشتمل على جميع الاصطلاحات العلمية والفنية فى الطب والنبات والحيوان والعلوم الأخرى المتصلة بالعلوم الطبية.
ذكر على مبارك ترجمة مستفيضة عن محمد البقلى فى الجزء الحادى عشر من الخطط التوفيقية، صفحة 85: «..هو العالم الشهير محمد على باشا البقلى الحكيم باش جراح ورئيس المدرسة الطبية والإسبتالية. ولد فى زواية البقلى فى سنة 1230 هجرية، وبعد أن ترعرع أدخله أهله المكتب ببلده فتعلم الكتابة وشيئا من القرآن، ولما بلغ التاسعة من عمره أدخله أهله مكتب أبى زعبل أحد المكاتب الديوانية فلبث فيه ثلاث سنين أتم فيها قراءة القرآن ثم أدخلوه عقبها المدرسة التجهيزية فى أبى زعبل فمكث فيها ثلاث سنين كان قائد فرقته ثم دخل مدرسة الطب تحت إدارة كلود بك وهناك بذل جهده مع كمال القريحة حتى فاق أقرانه ولما صدر أمر العزيز محمد على بإرسال بعض التلاميذ إلى باريس للتبحر فى العلوم الطبية وغيرها انتخبه كلوت بك مع أحد عشر من نجباء التلامذة الذين كانوا قد أتموا دراسة الطب. فى باريس بذل غاية جهده فى تحصيل العلوم الطبية والجراحية وشهد له جميع خواجاتها بالتفوق على من معه مع كونه أصغرهم. ولما أتموا جميع امتحاناتهم فى مدرسة الطب عادوا إلى مصرسنة 1838م فألحق البقلى بإسبتالية قصر العينى بوظيفة باش جراح وخوجة فى العمليات الجراحية كبرى وصغرى والتشريح الجراحي..ثم صدر أمر المرحوم عباس باشا برفعه من قصر العينى وجعله فى أحد أثمان المحروسة لمنافسة حصلت بينه وبين بعض حكماء الإسبتالية الأوروبيين فصار أكثر الأهالى يأتون إليه وقل الوارد على الإسبتالية واشتهر أمره جدا فمكث كذلك نحو خمس سنين ثم أنعم عليه برتبة قائم مقام وجعل باش حكيم حيث لم يلبث إلا قليلا ولزم بيته نحو سنة. وبعد وفاة المرحوم سعيد باشا أصبح رئيس الإسبتالية ومدرسة القصر العينى وفى سنة 1290 هجرية تشرف بالرتبة الأولى من الصنف الثانى ثم لزم بيته فى شوال 1292 من غير أن يعلم السبب فطلب منه التوجه إلى بلاد الحبشة مع حسن باشا نجل الخديو إسماعيل فاستشهد هناك عليه رحمة الله. له من المؤلفات كتاب فى العمليات الجراحية الكبرى وضعه باللغة العربية فى مجلدين وسماه غاية الفلاح فى أعمال الجراح وكتاب فى الجراحة الصغرى وكتاب فى الجراحة أيضا فى ثلاثة أجزاء طبع وله قانون فى الطب وقانون فى الألفاظ الشرعية والاصطلاحات السياسية كلاهما لم يكمل». إضافة إلى ماذكره على باشا مبارك، كان البقلى هو المؤسس لمجلة اليعسوب الطبية والتى كانت تصدر كل شهر. اسمها مشتق من كلمة اليعسوب، واليعسوب هى ملكة النحل، ويقال هو يعسوب قومه أى سيدهم، بالتالى كان المقصود من اختيار ذلك الاسم لتدل على أنها سيدة المجلات وملكتها، والتى تعتبر علامة مهمة من علامات الصحافة المصرية. صدر منها العدد الأول عام 1865، وكان يشاركه فى تحريرها إبراهيم الدسوقي. كانت تطبع فى مطبعة بولاق واستمرت حتى 1876. وهى أول مجلة طبية تصدر بالعربية.
ذكر عمر طوسون تراجم عن الباقين ملخصها:
3 ــ محمد الشباسى أفندى: أصله من تلاميذ الأزهر ثم دخل مدرسة الطب بأبى زعبل. رجع من فرنسا عام 1838 وعين فى مدرسة الطب المصرية معلما للتشريح الخاص والتحضير. تم اختياره ليكون طبيبا لموظفى قناة السويس عقب إنشائها وبقى فيها حتى وافته المنية..له كتابان: التنقيح الوحيد فى التشريح الخاص الجديد وطبع عام 1845، والآخر كتاب التنوير فى قواعد التحضير، صدر عام 1848.
4 ــ مصطفى السبكى أفندى: من طلبة الأزهر ثم التحق بمدرسة الطب بإبى زعبل. سافر فى بعثة الأطباء عام 1832 وتخصص فى طب العيون. عاد إلى مصر عام 1838 وعين مدرسا فى مدرسة قصر العيني، وبقى فيها إلى سنة 1849. اشترك فى ترجمة المصطلحات العلمية والطبية من الفرنسية إلى العربية. ظل فى مدرسة الطب حتى وافته المنية عام 1860.
5 ــ أحمد الرشيدى أفندى: من طلبة الأزهر الذين اختيروا لدراسة الطب بأبى زعبل وتم اختياره للسفر فى بعثة الأطباء عام 1832. عاد إلى مصر عام 1838 وعين فى مدرسة الطب معلما للعلوم الطبيعية. بقى فيها إلى أن ألغيت فى أول عهد سعيد، ولم يعد إليها بعد عودتها فى عهد سعيد أيضا حيث اشتغل بعلاج الأهالي. رجع إليها فى عهد إسماعيل وبقى فيها حتى وافته المنية عام 1865. له ثمانية كتب: ترجمة رسالة تطعيم الجدرى لكلوت بك طبعت سنة 1836، الدراسة الأولية فى الجغرافية الطبيعية طبع سنة 1838، ترجمة كتاب ضياء النيرين فى مداواة العينين طبع سنة 1840، بهجة الرؤساء فى أمراض النساء طبع 1844، نزهة الإقبال فى مداواة الأطفال طبع سنة 1845، الروضة البهية فى مداواة الأمراض الجلدية ( جزءين ) طبع سنة 1847، نخبة الأماثل فى علاج المفاصل . طبع كذيل لكتاب الروضة سنة 1847، عمدة المحتاج فى علمى الأدوية والعلاج ( 4 أجزاء )، طبع سنة 1866، وهو دائرة معارف طبية.
6 ــ عيسوى النحراوى أفندي: من طلبة الأزهر الذين التحقوا بمدرسة الطب بأبى زعبل عند إنشائها عام 1827. اختير للسفر فى بعث الأطباء للتخصص فى التشريح العام. عاد إلى مصر سنة 1836، وعين بمدرسة الطب معلما للتشريح.اشترك فى ترجمة كتاب المصطلحات الطبية والعلمية حيث ترجم الجزء الخاص بالتشريح. إضافة إلى ذلك قام وهو طالب بفرنسا بترجمة كتاب التشريح العام لكلار الفرنسى وطبع سنة 1835.
7ــ حسن غانم الرشيدي: من طلبة الأزهر الذين أختيروا لدراسة الطب بمدرسة أبى زعبل. سافر ضمن بعثة الأطباء وتخصص فى الصيدلة ( الأقرباذين ) سنة 1832. عاد إلى مصر سنة 1838 وعين بمدرسة القصر العينى معلما للأقرباذين والمادة الطبية. له مؤلفات تشمل كتاب الدر الثمين فى المنافع طبع سنة 1841.الأقرباذين طبع سنة 1849، وترجمة كتاب الدر اللامع فى النبات.
8 ــ محمد الشافعى أفندي: من تلاميذ الأزهر الذين تم اختيارهم لدراسة الطب بأبى زعبل. تم اختياره ضمن بعثة الأطباء إلى فرنسا عام 1832. عاد إلى مصر سنة 1838 وعين فى مدرسة الطب معلما للأمراض الباطنية فأظهر جدارة وكفاءة جعلته جديرا بتولى وكالة مدرسة الطب ثم رئاستها سنة 1847. له كتب: أحسن الأغراض فى التشخيص ومعالجة الأمراض ( 4 أجزاء )، طبع سنة 1843، وترجمة كتاب الدرر الغوال فى معالجة أمراض الأطفال لكلوت بك طبع سنة 1844، وترجمة كتاب الصحة طبع سنة 1844، وكتاب السراج الوهاج فى التشخيص والعلاج ( 4 أجزاء ) طبع سنة 1864.
9 ــ محمد السكري: من تلاميذ الأزهر الذين التحقوا بمدرسة الطب بأبى زعبل وتم اختياره ضمن بعثة الأطباء سنة 1832. عاد إلى مصر سنة 1838 وعين مدرسا فى مدرسة الطب.لم يعثر على أى مؤلف له.
10 ــ حسين الهيهاوي: كان من تلاميذ الأزهر الذين التحقوا بمدرسة الطب وتم اختياره للسفر فى بعثة الأطباء سنة 1838. نال إعجاب أساتذته الفرنسين فشهدوا له بتفوقه على سائر رفاقه المصريين والأجانب. عاد إلى مصر فعين فى مستشفى الإسكندرية للجنود البحرية حيث ذاع صيته وعظمت الثقة به ووافته المنية فجأة سنة 1840.
11 ــ محمد منصور: من تلاميذ الأزهر الذين التحقوا بمدرسة الطب بأبى زعبل. سافر ضمن بعثة الأطباء إلى فرنسا عام 1832. عاد إلى مصر سنة 1836 وعين معلما بمدرسة الطب. لم يعثر على أى مؤلف له.
12ــ أحمد بخيت: من تلاميذ الأزهر الذين التحقوا بمدرسة الطب بأبى زعبل تم اختياره للسفر فى بعثة الأطباء سنة 1832. عاد إلى مصر سنة 1838 وعين معلما فى مدرسة الطب. لم يترك أثرا علميا وغير معروف تاريخ الوفاة.
وكان محمد على وأسرته مصنوعين للنخبة فى كل التخصصات. كانوا ينعمون عليهم بالمال والعقار واللقب. كان طبيعيا أن يكون رد الفعل حسن الآداء والتفانى والإخلاص فى الوظيفة والإبداع المهنى والأكاديمى وخدمة البلاد. منحت أسرة محمد على عبر تاريخها 21 طبيبا لقب الباشوية وهم: محمد على البقلى باشا وإبراهيم النبراوى باشا وسالم سالم باشا ومحمد درى باشا وعيسى حمدى باشا وعثمان غالب باشا وظيفل حسن الوردانى ومحمد شاهين باشا ونجيب محفوظ باشا وسليمان عزمى باشا وسيد عبد الحميد سليمان باشا وإبراهيم حسن باشا وعلى إبراهيم باشا ومحمد صبحى باشا وعلى توفيق شوشة باشا والذى كان من مؤسسى منظمة الصحة العالمية مع ثلاثة أطباء من كل العالم وعبد العزيز إسماعيل باشا وعبد الواحد الوكيل باشا وإبراهيم شوقى باشا وإبراهيم فهمى المنياوى وأحمد شفيق باشا وحسن محمود باشا.
نال هؤلاء الباشوية بعبقريتهم وعملهم الشاق، ورغم أنهم تاريخ مشرق فى ذاكرة الأمة للأبد، إلا أنهم لم يحظوا بالشهرة اللائقة والمستحقة ليعرفهم القاصى والدانى من أبناء هذا الوطن. إنهم مثل مصر: يستعصون على الفهم.
إنهم يستحقون من كل الأجيال الحاضرة والمستقبلية فى كل التخصصات العلمية والأدبية أن تعرفهم وتحتفى بذكراهم العطرة وتحس بالفخر لانتمائهم لهذا الوطن. تحضرنى دعوة نادى بها الدكتور مصطفى الفقى بهذا الصدد بمقاله بالأهرام بتاريخ 24 سبتمبر 2019 يقول فيها: «..إن تاريخنا المصرى والعربى يحتاج إلى قراءة جديدة دون أفكار مسبقة أو شعارات معلبة فى قوالب من الشائعات المغلوطة التى توارثتها الأجيال . مرحبا بالموضوعية الكاملة والحياد الأكاديمى الحقيقى من أجل تشكيل رؤية الأجيال القادمة لماضيها الوطنى وتاريخها القومي».
رابط دائم: