قبل أن أتحدث عن أساتذتى فى المدرسة والجامعة والحياة الذين تركوا أثرا فى شخصيتى وحياتي, أحب أن أتوقف أولا عند ملاحظة جديرة بالتسجيل. وهى أن ذلك الجيل من الأساتذة لا يمكن أن يتكرر فى ظل ما نسمع عنه الآن من المستوى الذى انحدر إليه الجيل الحالي. كان ذلك الجيل من الأساتذة متمكنا من عمله وعلى درجة كبيرة من الثقافة والموهبة, وانعكس ذلك بالطبع علينا نحن طلبة تلامذة ذلك الزمان... نجيب محفوظ فى مقدمة حديثه عن أساتذته فى مراحل حياته المختلفة, تحت عنوان هؤلاء علموني, من كتاب نجيب محفوظ صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته, رجاء النقاش, مركز الأهرام للترجمة والنشر, 1998. الحديث المهم يعكس وفاء محفوظ الدائم، وكلماته عن أساتذته تفسر لنا كثيرا من أعماله.
بدأ محفوظ حديث الوفاء للذين علموه بمدرس العربي: فى مقدمة هؤلاء الأساتذة الذين علمونى الشيخ عجاج أستاذ اللغة العربية بمدرسة فؤاد الأول. لم يكن الشيخ عجاج مدرسا للعلم فقط بل كان معلما للوطنية, حيث كان أحد الأسباب المباشرة التى جعلتنا نحن تلاميذ تلك المدرسة ننفعل بثورة 1919 ونعشق زعيمها سعد زغلول. كان الشيخ عجاج داعية من دعاة الثورة, وحتى فى دروس اللغة العربية كان يستشهد بمواقف وأقوال زعمائها. ويضيف شارحا دور وتأثير الشيخ على مسيرة حياته: كان الشيخ عجاج من أوائل الذين لفتوا انتباهى الى جمال التراث العربى وروعته وثرائه. ففى دروس البيان كان يستشهد بأبيات شعرية وبحوادث ليست من المقرر الدراسي, وكنت أسأله عن مصادرها فيدلنى على عيون التراث العربي. وذهبت الى مكتبات خان الخليلى وبحثت عن هذه الكتب طويلا حتى اهتديت إليها, ونفعتنى قراءتها كثيرا فيما بعد. يستطرد محفوظ شارحا بالتفصيل العلاقة بينه وبين أستاذه وتشجيعه له وانبهاره بأسلوبه المتميز فى موضوعات الإنشاء وفى إجادته لقواعد اللغة العربية وكيف أنه خلق لديه حبا واهتماما باللغة العربية وآدابها فى سنوات دراسته الأولي. يفسر لنا محفوظ فى حديثه عن معلمه الأهم وأنه هو الذى كان الدافع وراء عدم كتابته باللغة العامية: منذ أن بدأت الكتابة وأنا حريص على استعمال اللغة العربية الفصحى والبعد قدر الإمكان عن استعمال العامية, خاصة أن لدينا عدة لهجات من العامية. فتجد لأهل الصعيد لهجة ولأهل الوجه البحرى لهجة. وتمسكى باللغة العربية الفصحى يرجع الى أسباب عديدة منها أنها لغة عامة وقومية ودينية وغير ملفقة. محفوظ هنا وفيا الى أستاذه ووفيا الى لغته وتراثه لا يتعالى عليه ويوشمه بالأوراق الصفراء كما يفعل البعض ويصفه بأنه كان المعلم له. فى الجامعة أيضا كان له قدوة: كان هناك مصطفى عبد الرازق أستاذه الكبير: وإذا كان الشيخ عجاج هو أكثر أساتذتى تأثيرا فى نفسى فى أثناء مرحلة المدرسة, فإن الشيخ مصطفى عبد الرازق هو أكثرهم تأثيرا خلال الدراسة الجامعية. هو مثال للحكيم كما تصوره كتب الفلسفة, رجل واسع العلم والثقافة ذو عقلية علمية مستنيرة, هاديء الطبع, خفيض الصوت, لا ينفعل ولم أره مرة يتملكه الغضب. فى السياسة كان هناك أستاذان: كان جيلنا يتمتع بصفة جميلة وهى التفرقة بين قضايا الأدب والسياسة. فنحن مثلا كنا نختلف مع الدكتور محمد حسنين هيكل والدكتور طه حسين فى السياسة على طول الخط، ومع ذلك كنا نحترمهما كأديبين ونعتبرهما على رأس أساتذتنا الذين نتعلم منهم. كان هناك الاحتلال الإنجليزي, ورغم قباحته إلا أن محفوظ المعتدل العادل يفرق بين الاحتلال وفظاعته وبين احترامه وحبه للفكر والأدب الإنجليزي: كنا فى صدام مع الإنجليز ونتظاهر ونهتف ضدهم الاستقلال التام أو الموت الزؤام (الكلمة الخالدة التى أطلقها سعد زغلول فى ثورة 1919 ورددها شعب مصر), وفى الوقت نفسه نضع الأدب والفكر الإنجليزى فوق رءوسنا ونقدره ونتابع بشغف ما يكتبه ويلز وبرنارد شو وغيرهما. كنا نفرق بين الوجه الاستعمارى القبيح والوجه الحضارى المشرق. لم ينس محفوظ دور بعض الأدباء المصريين فى حياته: توفيق الحكيم له مكانة خاصة فى قلبي, وربما أكون أحببت العقاد وتربيت على يديه, وربما أكون تأثرت بطه حسين الى حد بعيد, ولكن توفيق الحكيم هو الوحيد الذى ارتبطت به وجدانيا وروحيا وعشت معه سنوات طويلة كظله. كان لسلامة موسى دور مهم فى حياة نجيب محفوظ. كان هو الناشر لكثير من أعماله الأولى النادرة من مقالات وقصص قصيرة فى بداية الدراسة الجامعية. هذه الأعمال الأولى النادرة بالغة الأهمية لأنها تسجل الكتابات الأولى النادرة لنجيب محفوظ. خيرا فعلت دار الشروق التى نشرت على موقعها تلك الكتابات النادرة فى مارس 2007, لتكون جزءا مهما من إبداعات نجيب محفوظ. يقول عنه محفوظ: أستطيع القول إن تأثيره كان كبيرا على جيلنا. لقد أضاءت كتبه ومؤلفاته الطريق أمامنا نحو الحياة الحديثة والأفكار المعاصرة, فمن خلال سلامة موسى عرفنا معنى الفابية والاشتراكية وحرية الفكر وكل المصطلحات الغربية الجديدة بالنسبة لنا. عمل محفوظ مديرا لمكتب يحيى حقى عندما كان مديرا لمصلحة الفنون فى الفترة من 1955 الى 1959, وكان يكن له مودة كبيرة تعكس مدى تأثره العميق بشخصيته وأدبه وإنسانيته الرفيعة: تذكرت يحيى حقى حينما فزت بجائزة نوبل فى الأدب عام 1988, وقلت لأول من سألنى عمن يستحق نوبل من الأدباء العرب, فوضعت اسم يحيى حقى فى المقدمة, كما أننى أهديت له الجائزة باعتباره واحدا من الأدباء العرب الكبار الذين يستحقونها عن جدارة. لقد أسس حقى للقصة القصيرة فى مصر والعالم العربى قاعدة قوية وأخلص لهذا الفن, وبخلاف القصة القصيرة فإننى استمتعت واستفدت من كتابات حقى فى فن المقال وفى النقد.
رحم الله نجيب محفوظ فى ذكرى رحيله الرابعة عشرة والتى تحل علينا فى الثلاثين من أغسطس.
لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى جودة رابط دائم: