رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

.. وطبيب الأثرياء

عقب انتهاء امتحانات الثانوية العامة، ومرور الأُسر بفترة طويلة من التوتر والقلق بسبب انتظار النتيجة، ثم إعلانها، لتتباين ردور الأفعال بحسب النتائج، كل ذلك يدخل فى إطار الأمور المعتادة، إلا أن ثانوية هذا العام مختلفة بسبب ما شهدته تداعياتها المرتهنة بفيروس كورونا.

لكنى أعرج على حوار مهم للغاية، دار أمامى بين مجموعة من الجيران خريجى ثانوية هذا العام، ودرجاتهم تقترب من حد الـ 100%، مما رفع سقف أحلامهم إلى عنان السماء، منهم شابان، حلمهما الدخول لكلية الطب، ولكل منهما هدفه الخاص به.

الأول، يرى دائما طبيب الغلابة الراحل د. مشالى، مثلا أعلى أمام عينيه، ويحلم بدخول الطب، ليحذو حذوه، ويكرر تجربته الثمينة، ولكن بطريقة مختلفة، فسألته كيف؟

قال باستخدام وسائل وتقنيات الزمن الحالى، والتى تختلف بالطبع عن زمن د. مشالى، فسوف أخصص وقتا للرد على استفسارات المرضى على صفحات التواصل الاجتماعى لمدة ساعة أو اثنتين كل يوم، بخلاف تخفيض سعر الكشف فى العيادة الخاصة، لأتمكن من استقبال أكبر عدد من المرضى لمباشرة علاجهم. أما الثانى، فكان له رأى مختلف تماما، حيث أكد أنه يرى نفسه طبيب الأثرياء، وليس الغلابة، فهو على قناعة تامة، بأن دخول الطب و دراستها مُكلفة للغاية، من ناحية المجهود وأشياء أخرى، مما يستلزم تعويض ذلك بعد التخرج، مع ضرورة امتلاك الأموال الكافية لاقتناء السيارة و العيادة، .. إلخ. إضافة إلى أنه يُفضل أن يُطلق عليه لقب طبيب الأثرياء، فقلت له لماذا، فقال إنه وسط يتمنى الانتماء إليه بكل الطرق الممكنة، ولن يدخر جهداً من أجل تحقيق التفوق، حتى ينال مكانة علمية تؤهله لتبوء وضعية متميزة بين أقرانه من الأطباء «باعتبار ما سيكون» ليمسى بعدها الأعلى أجراً، فهكذا يأتيه القادرون فقط الأثرياء، هذان اثنان من الشباب كلُ منهما يروى حلمه ويرسم أمله ليسير وراءه.

المقدمة السابقة كفيلة بتبيان كيفية النظر لمهنة الطب، فهناك من يراها الوسيلة المثلى لتحقيق الثراء، وآخر يراها الوسيلة الأرقى لحصد الحسنات والدعوات، الفارق بين الاثنين كبير، وليست مبالغة أن أقول إنها كالفارق بين السماء والأرض.

تحقيق الثراء، يتطلب أن يكون الهدف الأول هو جنى المال، وفى سبيل ذلك، تتوارى القيم النبيلة التى نتحدث عنها ليل نهار، مثل ضرورات غوث المرضى أصحاب الامكانات المادية المعدمة، وأن يتم التعامل معهم، بشكل إنسانى قبل الشكل المادى، ونتذكر هنا ما تفعله المستشفيات الخاصة عند استقبال الحالات المرضية أيا كانت درجة خطورتها، من ضرورة دفع مبلغ مالى كبير مقدما، للتأكد من القدرة على الانفاق آنفاً، مع التركيز على أهمية ذلك التصرف بالنسبة لهم، فالموضوع هنا تجارى بحت، ولا علاقة له بما تمثله مهنة الطب من أُطر وأبعاد نبيلة، يتشدق بها عدد من الأطباء، من باب الوجاهة الطبية، وهم فى الحقيقة أبعد ما يكونون عنها. أعلم تماما قدر ما يعانيه أطباء هذا الجيل من بذل جهود مضنية للغاية، حتى يتمكنوا أولا من التخرج، ثم التخصص، وفى هذا البند حدث ولا حرج، وهذا الشأن تحديدا ليس مكلفا ماديا فقط، ولكنه مرهق بدنيا وذهنيا لمدى يصعُب تخيله. مما يستلزم أن يستغرق الطبيب المتخرج حديثا وقتا طويلا نسبيا مقارنة ببقية أبناء جيله حتى يبدأ فى تكوين أسرته وحياته الخاصة، مما يحمله بكم كبير من الاحتقانات، ضد كل الطرائق التى أنهكته ذهنيا وماديا، حتى يصل للمكانة العلمية التى تسمح له بإعلانه التخصص فى علاج مرض ما، ومن ثم فتح عيادته الخاصة إن استطاع!. وقد يكون هذا الأمر مفسراً، لماذا اختفى طبيب الغلابة أخيرا، في الأجيال الأحدث تخرجا من جيل د. مشالى رحمة الله عليه، وإن وجدت فهم كما العملة النادرة، قلما يصيبك الحظ بوجودها.

وهنا الأمر قد تكون له علاقة بالإجراءات التى تتبعها الجهات الإدارية فى مصر للسماح للطبيب بمزاولة المهنة، سواء بالوقت المحدد لذلك أو بالكيف الذى يسمح له بالوصول لهذا الهدف الأسمى بالنسبة له.

ولذلك علينا مراجعة أنفسنا وكذلك مراجعة الإجراءات التى تتبعها غالبية الدول، سواء الأكثر تقدما منا، أو حتى المشابهة لنا، لنجد شأنا مغايرا تماما، وهو ما يحفز طلاب الطب فى بلدنا لإنهاء الدراسة، ثم معادلة الدرجة العلمية من جامعة أخرى فى بلد أكثر تقدما، أو دراسة الطب فى جامعة أجنبية بتكلفة أرخص كثيرا جدا جدا من معظم الجامعات الخاصة فى مصر، علماً بأن تلك الجامعات تحتل مكانة علمية أكثر رقيا بين ترتيب جامعات العالم، ومع ذلك فهى أقل كلفة، وذلك أمر ينبغى إعادة النظر إليه لاسيما فى تسعير مصاريف الدراسة فى الجامعات الخاصة، قبل أن يأتى يوم قريب، ونراها خاوية على ملاكها، بعد أن يهجرها الطلاب، الباحثون عن جامعات أفضل وأقل كلفة!.

وفى النهاية، طبيب الغلابة نموذج مبهر لشخصية متفردة من طراز خاص جدا، قلما يجود به الزمان لاسيما وسط ما طرحناه من ظروف، تكرارها سيكون بنفس الندرة، لذا على الجهات الإدارية المختصة بأحوال الأطباء من الدراسة وحتى التخصص، أن تعمل على إيجاد بيئة جيدة لتخريج طبيب متميز ومحب لبيئته، إذا أردنا أن يكون طبيب الغلابة هو النموذج السائد، وليس طبيب الأثرياء.

[email protected]

[email protected]
لمزيد من مقالات عمـاد رحـيم

رابط دائم: