«هذه الحرب الثقافية اليسارية تهدف الي القضاء علي الثورة الأمريكية. إنهم يحاولون بأفعالهم تلك تحطيم حضارة أنقذت بلايين البشر من الفقر والأمراض والعنف والجوع، تلك الأمور التي أدت الي رفعة الإنسانية الي مستويات عالية من الإنجازات والاكتشافات والتقدم. لتحقيق ذلك هم عازمون علي تحطيم كل تماثيل ورموز وذكري لميراثنا.بارك الله فيكم وفي الجميع وفي أهلكم.بارك الله في قواتنا المسلحة العظيمة وبارك الله في أمريكا».
هذا جزء من خطاب للرئيس الأمريكي ترامب يوم الجمعة الموافق الثالث من يوليو قبل الاحتفال بعيد الاستقلال بيوم واحد، والذي يقام سنويا في الرابع من يوليو منذ إعلان استقلال أمريكا عن بريطانيا في الرابع من يوليو 1776. اختار الرئيس ترامب جبل رشمور الذي توجد به تماثيل لأربعة رءوس عملاقة ارتفاع كل منها 18 مترا للرؤساء جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وثيودور وزفلت، وإبراهام لنكولن في قمة ذلك الجبل بولاية داكوتا الجنوبية. كان الخطاب مفرقا وداعيا لمزيد من الانقسام والاستقطاب بين الأمريكيين وداعيا الي الكفاح ضد الفاشية اليسارية التي تحاول محو القيم الأمريكية من التاريخ ـ علي حد تعبير الرئيس ترامب. لم يذكر ترامب ما تتعرض له أمريكا من إصابات وضحايا وباء كورونا الذي يحصد الأمريكيين حصدا، أو المظاهرات التي تعم كل الولايات غضبا ضد التفرقة العنصرية وركز علي إطلاق حملته الإنتخابية لمدة رئاسية ثانية وليعلنها حربا ثقافية ضد اليسار الديمقراطي الغاضب الذي يحاول أن يحطم تماثيل الآباء المؤسسين. لقد وجدها ترامب فرصة لتمكنه من الخروج من الأزمات التي تؤدي الي تدن مستمر لشعبيته في معالجة المشكلات المتفاقمة. كان خطابا مختلفا عن كل خطابات الرؤساء السابقين الذين كانوا دائما يحرصون عي إئكاء الروح الوطنية وجوانب الوحدة والترابط بين كل الأمريكيين علي اختلاف توجهاتهم. بعد ذلك الخطاب التاريخي المختلف، ظل ترامب عاكفا علي استخدام مصطلح حروب الثقافات في كل خطاباته وكل تغريداته التي تلت ذلك الخطاب في محاولة منه لترسيخه وطبعه في أذهان الكثيرين من الأمريكيين وخصوصا بين مناصريه وقاعدته الانتخابية المخلصة له. بعدها بيوم في الرابع من يوليو ومن البيت الأبيض كرر نفس الكلام وأضاف عليه: «نحن الآن في غمار عملية هزيمة اليسار الراديكالي والفوضويين ومثيري الفتن وناهبي الممتلكات الديمقراطيين, ولن نسمح أبدا لتلك الجموع الغاضبة أن تحطم تماثيلنا وأن تمحو تاريخنا وتشكل وعي أطفالنا». وأضاف: «لقد هزمنا النازيين من قبل وخلعنا عروش الفاشيين وهزمنا الشيوعيين وأنقذنا القيم الأمريكية وحافظنا علي المبادئ الأمريكية وطاردنا الإرهابيين لنهاية الأرض». ما يفعله ترامب هو محاولة إشعال نار فتنة وحرب ثقافات ضارية باستخدام شعارات وتعميمات وإلصاق تهم لخصومه الديمقراطيين المتفوقين في استطلاعات الرأي عسي، أن تخرجه من ورطة الكورونا وورطة العنصرية والمظاهرات التي تطغي علي إنجازاته الاقتصادية.
بعد هذه الخطابات والتغريدات خرجت أعداد من مناصريه المسلحين البيض للدفاع عن التماثيل، كما خرجت أعداد من السود المسلحين في ولاية لويزيانا لمواجهتهم. هذا الخبر أذاعته سي.إن.إن مساء الإثنين السادس من يوليو. هذه هي الفرقة وهذا هو الاستقطاب الذي يخشي نتائجه الجميع، والذي ينذر بنتائج كارثية في أمريكا وفي كل العالم. عندما سئل جوزيف بايدن المرشح الديمقراطي المحتمل منذ شهر عن احتمال رفض ترامب نتائج الانتخابات في حالة خسارته ودعوة أنصاره للخروج، وماذا سيحدث في هذه الحالة أجاب بايدن أن الجيش سيحمي نتائج الانتخابات وسيمنع ذلك. حرب الثقافات مفهوم عالمي قديم يعني صراعا بين ثقافتين أو أكثر,بدأ إحياؤه هذه الأيام وبدأ يكتسب شهرة نتيجة استخدام الرئيس ترامب له كأجندة إنتخابية له في محاولة إظهار نفسه مدافعا عن القيم المحافظة الأمريكية. عموما هو صراع بين ثقافتين مختلفتين مثل الصراع بين ثقافة الشرق وثقافة والغرب، وبين ثقافة القيم التقليدية والقيم التقدمية. في أمريكا الأمر مختلف حيث المجتمع غير متجانس يشبه الخليط، عموما حرب الثقافات في أمريكا تعني الحرب المستدامة بين المحافظين والليبراليين وخصوصا بين أي مكون من مكوناتها العديدة ومكون آخر. المفهوم بدأ في أمريكا في عشرينيات القرن العشرين عندما بدأ الاحتكاك بين القيم الريفية والقيم العمرانية في أمريكا. اشتعلت هذه الحرب في ثمانينيات القرن العشرين وتسببت في إنجاح الرئيس رونالد ريجان ونتج عنها تفوق المحافظين علي الديمقراطيين الليبراليين التقدميين مما نتج عنه مناخ محافظ ناقد للفن والأكاديمية وكل الجوانب الثقافية المخالفة لثقافته وكل ما يمثله ذلك من أعمال تصل الي حد التكفير علي حد وصفهم، ووشمهم خصومهم السياسيين بأنهم يهدمون التقاليد والقيم العائلية وما تمثله الحضارة الغربية من قيم. في عام 1991, صاغ الدكتور جيمس ديفسون هنتر عالم الدراسات الاجتماعية بجامعة فيرجينيا مفهوم حرب الثقافة في مقال بعنوان « النضال لتعريف أمريكا». وأضاف أن وجود كثير من المشكلات مثل الإجهاض والسياسة المتعلقة باقتناء الأسلحة وفصل الدولة عن الكنيسة واستخدام المخدرات قانونيا خلق استقطابا واضحا في أمريكا.
من أجل هذا يحاول الرئيس ترامب إحياء تلك الحرب واشعالها واستغلالها لتخرجه من ورطاته العديدة. إنه يحاول استخدامها كقضية كبري لإعادة انتخابه. أصبحت كل لقاءاته وخطاباته ترديدا وتكرارا لما يحاول اليسار المخرب متمثلا في خصومه الديمقراطيين الذي يحاول أفراده تحطيم التماثيل. إستراتيجية ترامب تلك ستزيد من دعم قاعدته الانتخابية له، ولكنها لن تجد آذانا صاغية بين الجائعين والذين فقدوا وظائفهم والذين يعيشون في خطر دائم خوفا من تعرضهم للموت من وباء الكورونا الذي يزداد حدة في أمريكا.
لمزيد من مقالات د. مصطفى جودة رابط دائم: