سيطرت عليَّ مقارنة دائمة فى مناسبات مختلفة بين النهج الثورى والفكر الإصلاحى ولى فى ذلك كتاب صدر عام 1994 يدور حول هذا الموضوع، وأنا ممن يظنون أننا قد أفرطنا فى مصر والمنطقة العربية عمومًا فى استخدام تعبير ثورة وأصبحنا نردده بغير معنى، فالثورة ليست مجرد تغيير نظام الحكم، ولكنها تحول فى نسيج المجتمعات وطرائق التفكير وفلسفة الحياة السياسية برمتها، بحيث تكون للثورات شعارات كبرى تتجه إليها وتسعى لتحقيقها، مثلما حدث فى الثورة الفرنسية التى شغلت العقل الأوروبى لأكثر من قرن كامل وانتهت بتغييرات هائلة فى الفكر والأدب، فى السياسة والفن وفى التركيبة الأساسية لهياكل المجتمعات مع صعود بعض الطبقات وسقوط عدد كبير من المسلمات، فالثورة إذن ليست تغييرًا ميدانيًا ولكنها تحول فكرى يرتبط بفلسفة النظم السياسية والهياكل الاقتصادية والأطر الاجتماعية وأرى ذلك أبعد كثيرًا مما أطلقنا عليه تعبير ثورة تجاوزًا، فحتى 23 يوليو عام 1952 هى فى ظنى حركة قام بها الجيش وساندها الشعب فاكتسبت مضمونًا اجتماعيًا سمح لنا بتسميتها ثورة، كما أن 30 يونيو 2013 كانت نموذجًا لمفهوم الديمقراطية المباشرة والتعبير عن رأى الأمة بالخروج إلى الشوارع والميادين فى وقت واحد متجهين صوب هدف قد يكون إسقاط نظام أو الدفاع عن بعض القيم أو الانتصار للهوية الوطنية، أما البرامج الإصلاحية فتلك قضية أخرى لأنها لا تشترط العمل الثورى مقدمة لها، ولكنها يمكن أن تتحقق من خلال مجموعات من البشر تجمعهم رابطة فكرية واحدة ولهم توجه يشتركون فيه للمضى فى مسيرة إصلاح قد تحتاج إلى فترة زمنية حتى تحقق نتائجها وتؤتى أكلها، فأنا شخصيًا أرى أنه كانت هناك إرهاصات إصلاحية قبل ثورة عام 1952، فالصعود الطبقى كان متاحًا من خلال التعليم وهذه مسألة مهمة لأنها تعنى أن الحراك بين الطبقات لم يكن معدومًا ولكنه كان قابلًا للتحقيق، فأم على مبارك رائد التعليم فى مصر كانت تعمل فى البيوت لتوفر قوت أسرتها، كما أن على باشا إبراهيم رائد الطب المصرى قد انطلق من أسرة فقيرة ولكنه أصبح أول عميد لكلية الطب المصرية، واقترن اسمه باعتباره طبيب الفقراء وأيضًا طبيب الملوك والأمراء، فالصعود الطبقى لم يكن مغلقًا والحراك الاجتماعى كان متاحًا ولذلك فإن دفعة قوية من الإصلاح القائم على التفكير الجمعى لمجموعة من الرواد فى مختلف المجالات كان يمكن أن تقدم بديلًا لتلك الحركات الفجائية التى لا تستند إلى خلفية نظرية ولا إلى برنامج واضح، ولذلك فإننى قد وضعت نفسى منذ سنوات فى زمرة الإصلاحيين وتصورت أن ذلك هو الطريق الأقصر للنهوض بالبلاد، وربما غاب عنى أحيانًا أن هناك قوى سلبية تمارس دورًا تخريبيًا يسعى لتعطل مسيرة الإصلاح مهما تكن قوته الدافعة، حتى أن الأمر قد يحتاج إلى ثورة حقيقية تمهد لحركة إصلاحية وهنا يكون التلازم بين الثورة والإصلاح أمرًا ضروريًا يصعب إنكاره، إذ أن كثيرًا من الحركات الإصلاحية تحتاج إلى تمهيد ثورى يقتلع جذور الماضى ويمهد التربة لزراعة أفكار جديدة وقيم مختلفة لم تكن متاحة من قبل، فإذا كان هناك مريض بالتهاب الزائدة الدودية التى تؤثر على (القولون) تحت ما يسمى اضطرابات الجهاز الهضمى فى الأمعاء الغليظة فإن الأمر قد يحتاج أولًا إلى إجراء جراحة لاستئصال الزائدة الدودية ثم المضى فى العلاج على البارد للمشكلات التى نجمت عنها أو تأثرت بها، فالجراحة ضرورية أحيانًا لبتر الفساد ولكنها لا تصلح وحدها كمؤهل لإقامة بنيان صالح وتشييد دعائم دولة جديدة، إذ أن المركب الإصلاحى هو الذى يستطيع ذلك دون سواه، ولنا هنا بعض الملاحظات:
أولًا: إن كثيرًا من الدول تبدو فيها الحالة معقدة، فهى لا تنهض بالثورة وحدها ولا تتحرك بالإصلاح المنفرد ولكنها تحتاج إلى عملية بتر للماضى حتى يمكن الحديث عن نهوض المستقبل، كما أن الثورة كفعل مفاجئ وعنيف قد لا تستطيع وحدها تحقيق الأمانى الوطنية أو الوصول إلى حالة توصف بالاستقرار وتحقيق التقدم، لذلك فإننى شخصيًا أرى أن المسارين مطلوبان، مسار ثورى يسعى إلى هدم الماضي، ومسار إصلاحى يسعى إلى التبشير بالمستقبل وإضاءة الطريق أمام الأجيال الجديدة.
ثانيًا: لقد لاحظنا ولاحظ غيرنا أن الإسراف فى استخدام كلمة الثورة قد وضعنا فى مأزق حقيقى ربما يكون سببًا للمصادرة على المستقبل أو إنكار الحقيقة كما يجب أن نراها، فالفعل الثورى يشعل حماس الناس وقد يعمى الأبصار عن الرؤية الحقيقية للمستقبل، كما قد يقترن برد فعل انتقامى يفتح الباب لدائرة شريرة لا تنتهى أبدًا، وهنا يكون من المستحب أن يدرك الثوار أنهم أصحاب رسالة إصلاحية وليسوا فقط مجرد أداة للتغيير إلى الأفضل، والأمر يقتضى فى هذه الحالة أيضًا وجود إطار ثقافى يرتبط بهوية الوطن والظروف العامة للبلاد ويضع الجميع فى إطار مشترك يسمح بالوصول إلى الأهداف القومية وتحقيق التطلعات الشعبية.
ثالثًا: لقد قال أمامى ذات يوم المشير السيسى وهو وزير للدفاع وفى حضور الراحل الغالى الفريق محمد العصار (إن عصر الانقلابات العسكرية قد ولى وانتهى ولم يعد المجتمع الدولى المتحضر مستعدًا لها، ولكن الجيش الوطنى هو أداة فى يد شعبه يغير بها الأوضاع عندما يشاء شريطة أن يحيط به تأييد كاسح يعبر عن إرادة الأمة بغير لبس أو غموض)، وأظن أن الرجل قد صدق وأوفى بما وعد فكان 3 يوليو 2013 هو استجابة لنداءات الملايين فى الشوارع والميادين يوم 30 يونيو، وهو يوم لو تعلمون عظيم فى تاريخنا الوطني.
إن الغوص فى التحليل المقارن بين نهج الثورة وفكر الإصلاح يجعلنا ندرك أن الحاجة إليهما معًا لازمة، ولكننى أجد من الأمانة تأكيد أن الثورة وحدها لا تجدى فتيلًا ولكن الإصلاح الرشيد قد يؤدى وحده إلى ما تتمناه الأمم وتبغاه الشعوب.
لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى رابط دائم: