كما توقعت تماما الأسبوع الماضي، الدراما المصرية قوة ناعمة لا يستهان بها، لا يقلل من أهميتها أو نفوذها سوى جاهل أو حاقد.
قلت إن «الاختيار» سيصيبهم بالجنون، وقد كان، وما زالت الحلقات تتوالى على رءوسهم، وكأنها صفعات.
ربما تكون هذه هى المرة الأولى منذ سنوات التى يلتف فيها أفراد الأسرة المصرية حول مسلسل بهذا الاهتمام، وهذا الاحترام، وأفضل ما فيه أنه يتناول أحداثا قريبة، تكاد تلامس الحاضر، والأجمل أن رد فعل الإرهابيين والمتأسلمين «الـمشمئنطة» على المسلسل يؤكد أنهم برجالهم ونسائهم وشبابهم لا يقاطعون المسلسلات ولا التليفزيون كما زعموا قبل رمضان، بل تبين أنهم متسمرون مثلنا أمام الشاشات يوميا لمشاهدة المسلسل «حتة حتة»!
وما أعجبنى شخصيا أن ردود أفعال هؤلاء على المسلسل لم تختلف كثيرا عن رد فعل إسرائيل إبان عرض مسلسلات «جمعة الشوان» و«رأفت الهجان» و«فارس بلا جواد»، ولا حتى عن رد فعل إسرائيل على مسلسل «النهاية» الحالى ليوسف الشريف، والذى يتناول فى قالب من الخيال العلمى صورة للعالم عام 2120 وقد انهارت أمريكا بالكامل، وزالت دولة إسرائيل، وتحررت القدس!
وفى الوقت الذى ارتفعت فيه حملات الطعن فى الدراما المصرية والدعوة لمقاطعتها، ومهاجمة مسلسل «الاختيار» بشكل خاص، والبطل أمير كرارة تحديدا، بل والطعن فى الشهيد المنسى ذاته، والزعم بأن المسلسل توثيقى أو يسيئ للنقاب، أو يعادى الإسلام، وغير ذلك من الكلام الفارغ، أصدرت الخارجية الإسرائيلية بيانا اعترضت فيه رسميا على مسلسل «النهاية» ووصفته بأنه غير مقبول بالكامل، بحجة أن مصر وإسرائيل تربطهما معاهدة سلام منذ 41 عاما، على الرغم من أن الأمر أبسط من ذلك، ومجرد حرية إبداع، وخيال مؤلف اسمه عمرو سمير عاطف رد عليهم فى وكالة «أسوشييتدبرس» للأنباء بأن «تدمير إسرائيل أمر ممكن مستقبلا فى غياب السلام والاستقرار الحقيقيين فى المنطقة، لأن السلام يجب أن يبنى على العدل».
وأسعدنا كثيرا أن ينضم أشقاء عرب من جنسيات مختلفة إلى صفوف المصريين فى الإشادة بـ«الاختيار» وببطولات المنسى وبأبطال القوات المسلحة والشرطة، وأيضا بقوة الدراما المصرية هذا العام، وقد طالبوا جميعا بأن يكون هذا هو مستوى الدراما المصرية فى رمضان وغيره، دراما تشبه السلاح، وتحرك المنطقة.
هذه هى الدراما يا سادة، وهذه هى «هوليوود الشرق» التى نريدها، والتى نعرفها، وهذا هو الجمهور المصرى الواعى الذى لم تمنعه العبادات والطاعات فى الشهر الفضيل من متابعة ما يستحق من مسلسلات محترمة وراقية، مع تجاهل المنتج الرديء، بل وإسقاطه، بدليل أن هذا هو العام الأول منذ سنوات الذى ينصرف فيه هذا الجمهور عن برنامج رامز جلال، بعد أن شاهد بنفسه كيف تحولت حلقات البرنامج من مجرد مقالب فكاهية، إلى دروس علنية فى البلطجة والتنمر تثير الاشمئزاز، كما كانت للجمهور أيضا الكلمة العليا فى الإطاحة بإعلان لم يراع منتجوه حرمة الشهر الفضيل، وقيم المجتمع المصري، أضف إلى ذلك حملة إسقاط أبطال فضائح «التيك توك»
باختصار، رمضان 2020 يؤكد لنا يوما بعد يوم أن مقولة «الجمهور عاوز كدة» تغيرت، ولن تكون حجة لتمرير الرداءة، والتفاهة، فالجمهور الآن لا يريد مشاهدة ما يخجل منه، الجمهور الآن مل قصص البلطجية والراقصات والمخدرات والفاسد المسنود و»الراجل الكبير»، الجمهور الآن يريد ما يمنحه الأمل والقوة والطاقة الإيجابية لمواجهة تحديات الحياة، لا العكس، الجمهور الآن بحاجة إلى من يرفع درجة وعيه بماضيه وحاضره ومستقبله، الجمهور الآن لا يمانع أن يكون نجوم الفن مليونيرات، طالما أنهم «فى ظهر بلدهم»، وطالما أن الأعمال الدرامية التى يقدمونها تليق بدولة مصرية قوية، وبمجتمع متحضر ومحترم.
الجمهور الآن لا يهمه تقديم عشرات المسلسلات فى رمضان، بقدر ما يهمه أن تكون لدينا على مدار العام أعمال فنية قادرة على أن توصل صوت مصر قويا للمنطقة والعالم بأكمله كما حدث فى «ممالك النار».
الجمهور الآن لن يكتفى بـ«اختيار» المنسي، وإنما يريد قصص «شويقة» و«الحايس» و«مبروك»، وغيرهم، فلولا هؤلاء، لكنا الآن نشاهد مسلسلات رمضانية تروى بطولات الظواهرى وعبد الماجد وحبارة، ولا عجب فى ذلك، فقد شاهدنا فى عام الإخوان مسلسلا عن «الريان»!
الدراما الآن مصرية بحق، وسلاح فعال فى يد الدولة والمجتمع معا، وصوت مسموع فى المنطقة، والاختيار فيها للجمهور، والجمهور «عاوز كدة»، ولن يرضى بغير «كده» من الآن فصاعدا.
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: