رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

عالم جديد

تكررت هذه العبارة علي ألسنة معظم المفكرين المعاصرين وخبراء السياسة الدولية ونظم الحكم، وأجمعت آراؤهم علي أن العالم لن يكون بعد كارثة الكورونا مثلما كان قبلها وأن تغييرات جوهرية سوف تطرأ علي مكوناته السياسية والاقتصادية والثقافية وعلي نفسيات الشعوب وأخلاقيات الأمم وأن بورصة الدول من حيث أوزانها ومراكز ثقلها سوف تختلف عما كانت عليه، وتحاور الخبراء كثيرًا حول دور كل دولة في المستقبل القريب ووقفوا طويلًا أمام دولة الصين إذ أن التنين الأصفر يبدو لاعبًا رئيسيًا فيما حدث، وأنا لا أزعم أنه يقف وراء ما جري أو أنه كان السبب فيه ولكن وبافتراض صحة كل ما قيل فإن الصين كانت في البداية ضحية لهذا الوباء كغيرها، ولكن الذي جري بعد ذلك يؤكد أن (بكين) هي الرابح الأول بعد كل ما حدث وقد حققت مكاسب اقتصادية في إطار الصراع المحموم علي ساحة الاقتصاد الدولي فهي التي استردت شركاتها ومؤسساتها من المارد الأجنبي بأبخس الأثمان في ظل الرعب الشديد للأسابيع الأولي عند ظهور وباء الكورونا واقتصاره لفترة علي الصين وحدها ولكنها قامت في النهاية بعملية تأمين لممتلكاتها الأصلية دون أن تدفع الأثمان الحقيقية لما استردته، ولا بأس في ذلك فهذه كلها تصرفات مشروعة في ظل قوانين السوق ونظرية العرض والطلب، ولكن الأمر المؤكد هو أن الصين قد تمكنت من تأكيد دورها الدولي عندما استطاعت وخلال أسابيع قليلة احتواء الوباء علي أرضها - وهي التي ظهر منها - لكي تثبت للجميع أن العملاق الصيني جاهز وقادر ومستعد؛ بل إن كثيرًا من احتفالات الدولة الصينية بمناسبة الانتصار علي الوباء لم تخل من لمسة استعراضية لمكانة دولة الصين في العالم المعاصر، وهي التي دفعت بأطقم الإغاثة والعلاج إلي إيطاليا عندما داهمها الوباء بشكل ساحق في وقت لم تتمكن فيه الدول الأوروبية الأخري من مد يد العون لشقيقتهم - عضوة الاتحاد الأوروبي - إيطاليا مركز المخزون الثقافي والتراكم الحضاري في القارة العجوز، ثم كان ما تعرضت له الولايات المتحدة الأمريكية عندما داهمها الوباء وكشف الغطاء عن مستوي الخدمة الصحية والرعاية الطبية في دولة يفترض فيها أنها قائدة العالم وأنها صاحبة السبق اقتصاديًا وعسكريًا، وها هي دول أخري عانت وتعاني داخل أوروبا ذاتها ولا تجد دعمًا أمريكيًا ولا دعمًا أوروبيًا إذ يبدو أن المشكلة أكبر من الجميع، وأخطر من كل تصور، وأعمق من كل تفكير يتحدث عن المؤامرة السطحية أو التفسير التآمري لظهور وباء كورونا، لذلك فإنني أظن أن عالمًا جديدًا قد ولد من رحم المأساة الإنسانية التي سيطرت علي كل بيت في عالمنا المعاصر وأننا سوف نخرج منها برؤي جديدة لعل أبرزها:

أولًا: إن التفوق العسكري والتقدم الاقتصادي لا يكفيان وحدهما دون السعي نحو إمكانية البحث العلمي وتوظيفه لخدمة البشر خصوصًا وأن كل اكتشاف أو اختراع هو سلاح ذو حدين، فالذي اخترع الديناميت كان يسعي إلي سهولة تفجير الجبال وفتح الأنفاق ولم يكن يفكر في تحطيم المؤسسات وسقوط مئات الضحايا ولقد ندم علي ذلك كثيرًا ورصد جائزة (ألفريد نوبل) باسمه تكفيرًا عن ذنب ارتكبه وهو في ساحة البحث العلمي، فلابد أن تكون الأهداف واضحة والغايات مؤكدة لدي كل العلماء خصوصًا فيما يتصل بالدراسات البيولوجية حتي يصبح جليًا أمام الجميع دوافع الأبحاث ونتائج التجارب وتكريس كل شيء لخدمة الإنسان سيد الوجود وخليفة الله في الأرض.

ثانيًا: لابد أن تعيد القوي الكبري النظر في مقوماتها الداخلية وأدوارها الخارجية في ظل أزمات اقتصادية متوقعة وظروف دولية معقدة بعد مأساة جمعت البشرية علي هدف واحد ولكنها نزعت أيضًا بعض مشاعر الإنسانية الدفينة ووضعت بديلًا لها قدرًا كبيرًا من الأنانية والرغبة في المضي وراء مصالحها الذاتية والانكفاء علي مشكلاتها الطاحنة مع التأكيد علي أن الاعتماد علي الغير لم يعد له مبرر لأنه أمام الأزمات الشرسة وأمام قضايا الحياة والموت فإن المصلحة الذاتية هي وحدها الفيصل في كل قرار.

ثالثًا: لقد اندهش كثير من الخبراء من أن الدول الأكثر تقدمًا كانت هي الأكثر تضررًا وكأنما هي حكمة الله في توزيع الأعباء بشكل عادل، لقد كانت وطأة المرض لدي دول الثروات المحدودة أقل من تلك التي تعرضت لها دول التقدم الاقتصادي والثقل العسكري، وذلك يعني أن الفقراء لديهم أحيانًا مناعة طبيعية قد لا يحوزها القادرون من حيث المكانة السياسية أو القدرة المادية أو التأثير في الغير.

رابعًا: لا شك أن القارة الأوروبية كانت في مجملها هي الأكثر تضررًا، وسوف يكون لذلك بالضرورة انعكاسه علي الاتحاد الأوروبي بعد أن تلقي ضربتين متتاليين وأعني بهما خروج بريطانيا منه ثم مأساة كورونا وما أحدثته في دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وألمانيا، وغيرها من دول ذات اقتصاديات قوية نسبيًا وكان يجب أن تتعافي بسرعة فضلًا عن إمكانية تفاديها لهذا الوباء الذي ظهرت بوادره منذ الشهر الأخير من عام 2019.

خامسًا: لابد أن تتجه نسب معقولة من الدخول القومية للدول نحو البحث العلمي مع اشتراطات أخلاقية تلزمه بأن يكون علنيًا ولخدمة الإنسان، ونحن لا نتهم أحدًا ولكننا نشعر أن الإنسان الذي يحاول تطويع الحياة لخدمته هو ذاته الإنسان الذي يحمل عوامل فنائه ومعاول نهايته، لهذا فإن البحث العلمي خصوصًا في المجالات الطبية والدراسات البيولوجية يجب أن يحظي باهتمام أكبر من كل الدول غنية أو فقيرة.

إن التنبؤ بمستقبل العالم أمر تحفه المخاطر بسبب اختلاف ردود الفعل لدي كل دولة بعد ما جري لها، ولكن الأمر المؤكد هو أن العالم بعد ظهور وباء كورونا لن يكون أبدًا هو ذات العالم الذي كنا نعيشه قبل هذا الوباء، فسوف يبدأ فهم مختلف لقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ومفهوم الحرية الفردية الذي سيطر علي الفكر الغربي الرأسمالي لعشرات السنين.. إنني أنضم أيضًا إلي (بيل جيتس) في إحساسه بالقلق المشروع من ألا تكون كورونا هي الوباء الأخير!


لمزيد من مقالات د. مصطفى الفقى

رابط دائم: