فى احتفال بالعيد الوطنى لدولة أوروبية صديقة، التقيت سفير إثيوبيا بالقاهرة دينا مفتي.
كان هذا هو اللقاء الأول الذى يجمعنا، ومع ذلك، كان هو المبادر بالتحية وفتح الحوار!
وقتها، كانت مفاوضات سد النهضة فى واشنطن لم تبدأ بعد، ولكن الأجواء كانت تدعو إلى التفاؤل، ولذلك، كان حديث الرجل معى وديا للغاية، فقد أبلغنى بأن كل شيء سيسير على ما يرام، وأنه لا يمكن لإثيوبيا أن تتسبب فى ضرر للشعب المصري، باعتبار أن العلاقات بيننا علاقات شعب واحد تقريبا، لأننا نشرب من نيل واحد، والدم الذى يسرى فى عروقنا مصدره أيضا واحد.
ولم أندهش عندما قال السفير جملته الأخيرة بنبرة عاطفية حماسية، وهو يشير بيده اليمنى إلى عروق يده اليسري، تعبيرا عن «نيل واحد ودم واحد».
ولكن، ما حدث فى واشنطن قبل أيام، يناقض تماما ما تعهد به «دينا»، وهذا هو اسمه، والذى شعرت وقتها بأنه يبلغنى رسالة محفوظة ومتكررة، سبق أن قالها بنفس العبارات كل من رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد، والمبعوث هيلا ميريام ديسالين، وإن كان آبى آحمد قد زاد على هذه العبارة المحفوظة أنه «أقسم بالله» أنه لا يمكن أن يتسبب مشروع سد النهضة فى أى ضرر لشعب مصر.
مصر اختارت الحوار والتعاون، ولكن من الواضح أن إثيوبيا لديها حسابات داخلية وخارجية تدفعها نحو ضرورة البدء فى ملء خزان السد منفردة، ودون التقيد بأى اتفاق، وبأى مطالب مصرية.
اختارت مصر لغة التفاهم فى الوقت الذى ركزت فيه إثيوبيا الرسمية والشعبية جهودها مدى سنوات على المماطلة والتسويف وترديد العبارات الرنانة، والشكوى بين الحين والآخر من مقال هنا، وتحليل هناك، وتصريح من مسئول سابق، لا يعجبها، بدعوى أنه لا يخدم المفاوضات، رغم أن ما تنشره وسائل الإعلام الإثيوبية، وما يقال على «السوشيال ميديا» الإثيوبية، لا يسير إلا فى اتجاه التصعيد مع مصر واستفزازها، ونحمد الله أن مصر لم تكن تتعامل سوى مع المواقف والتصريحات الإثيوبية الرسمية أو الإعلامية التى تخدم التقارب والتفاهم بين البلدين.
ولكن، المسار الذى اختارته إثيوبيا الآن هو الأسوأ بالنسبة لقضية سد النهضة كلها، فقد اختارت طريقا منفردا، دون اكتراث بالأضرار التى يمكن أن تلحق بجيرانها، فهى تتعامل مع مياه النيل وكأنها ملك لها، أو كأن المياه التى تنطلق من أراضيها وهضابها إلى مصر منذ آلاف السنين هى من العطايا التى تقدمها بلا مقابل إلى الشعب المصري، وهو تفكير غريب، ولا أحد يعرف من الذى أفهمها ذلك، وقد أكد الرئيس السيسى بوضوح أننا مع التنمية، ولكن الحق فى التنمية شيء، والحق فى الحياة شيء آخر، ومعروف ما الذى يمكن أن تفعله أى دولة أو أى إنسان للدفاع عن الحق فى الحياة.
وقد أحسنت وزارة الخارجية عندما ذكرت فى العبارة الأخيرة من بيانها الصادر بعد انسحاب إثيوبيا المريب من التوقيع على الاتفاق النهائى فى واشنطن أن جميع أجهزة الدولة المصرية سوف تستمر فى إيلاء هذا الموضوع الاهتمام البالغ الذى يستحقه، فى إطار اضطلاعها بمسئولياتها الوطنية فى الدفاع عن مصالح الشعب المصرى ومقدراته ومستقبله «بكافة الوسائل المتاحة».
وتكرر المعنى نفسه فى البيان الصادر لاحقا عن وزارتى الخارجية والري، والذى استنكر المزاعم الإثيوبية بشأن الحاجة إلى مزيد من الوقت، رغم مرور خمس سنوات من المفاوضات، وهو ما يؤكد بطبيعة الحال أن هدف أديس أبابا الواضح هو التنصل من أى اتفاقات، وإضاعة الوقت، من أجل الوصول إلى نقطة يونيو المقبل الحرجة، وملء السد وفقا لرغبات وخطط منفردة، وبما لا يسمح بعده بأى إجراء آخر يوقف الإضرار بمصالح مصر المائية ضررا بالغا.
على إثيوبيا إذن أن تدرك أن المصريين سئموا العبارات الدبلوماسية، والتصريحات الناعمة، والوعود التى لا تنفذ، وعليها أيضا أن تدرك أن ما يصدر من بيانات رسمية مصرية لا تصاغ عباراته فى «مدارس ابتدائي»، وإنما كل كلمة فيها لها ثقلها وخطورتها ومعناها.
وعليها أيضا إدراك أن التنمية المزعومة التى تأتى على حساب تعطيش شعب جريمة، ولا وصف لها غير ذلك. فلا داعى إذن تختبر صبر وقوة بلد سبق أن علم العالم «السلام» فى القرن الماضي، وفرض إرادته على العالم فى 3102، وحارب جحافل الإرهاب بمفرده لسنوات، وقادر على مواجهة أزمات وقضايا أخرى أصعب وأدق، بدليل أنه كسب تأييدا أمريكيا صريحا لموقفه فى مفاوضات واشنطن الأخيرة.
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: