رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

المشترك الثقافى

إن من يتأمل العلاقات العربية ـ العربية على كل مستوياتها سوف يلاحظ أن مساحة الإجماع فى القضايا الكبرى قد بدأت تتراجع بسبب تضارب المصالح القطرية أحيانًا والتدخلات الأجنبية أحيانًا أخرى إلى جانب الضغوط الخارجية؛ كما سوف يكتشف المتأمل أيضًا أن العلاقات البينية اقتصاديًا وتجاريًا لا تعبر عن روح عربية حقيقية إذ إنها أبعد ما تكون عن التكامل بل وأحيانًا أقرب ما تكون إلى التنافس، ويظل المشهد مستمرًا على الساحة العربية ولا نرى بريق الضوء إلا من خلال الإشعاع الذى ينطلق من المشترك الثقافى الواحد الذى يجمع بين العرب، فالنكتة المصرية يضحك لها العراقى والمغربي، والأغنية اللبنانية يطرب لها السعودى والجزائرى وقس على ذلك ما تشاء، فالمشترك الثقافى هو نقطة الالتقاء العربية على المستوى الشعبى بل والرسمى أحيانًا، وما زلت أتذكر لقاءً رسميًا مع الرئيس الجزائرى السابق عبد العزيز بوتفليقة حيث كنت مرافقًا للسيد عمرو موسى وزير الخارجية المصرى فى زيارة للجزائر فإذا بالرئيس بوتفليقة يستهل اللقاء بحديث طويل عن مسلسل (أم كلثوم), الذى كان يذيعه التليفزيون المصري, ويبدو الرئيس الجزائرى السابق شديد الاهتمام بالمغنية العربية الراحلة ودورها فى تجميع الكلمة وصنع ذوقا عاما يجمع العرب ويوحد شعورهم فى أوقات معينة وفى ظنى شخصيًا أن العامل الثقافى هو الفيصل، ولقد كنت فى مناظرة تليفزيونية مع زميل لى فى البرلمان المصرى عام 2009 وكان هو ممثلًا لجماعة الإخوان المسلمين - وأصبح رئيسًا للجمهورية بعد ذلك بسنوات قليلة - ولقد وجهت له السؤال فى أثناء المناظرة: لو أنك جلست على مقعد فى مقهى بلندن أو باريس والتقيت مسلمًا إندونيسيًا ومسيحيًا عربيًا فمع من تجلس وتتحاور وتجد ذاتك الحقيقية؟ فراوغ فى الإجابة وقال: إن ذلك يتوقف على الظروف، فقلت له: إن المشترك الثقافى أكثر تأثيرًا من المشترك الدينى بين الشعوب؛ فالثقافة علاقة إنسانية بين الفرد والآخر بينما الدين علاقة روحية بين الفرد وخالقه، واختلفنا يومها بل وأتذكر أنه احتج على أن وزير المالية فى مصر حينذاك مسيحى ويجب أن تكون وزارات الدفاع والخارجية والداخلية والمالية فى أيد مسلمة! هكذا كان يفكر وتلك كانت رؤيته، وما أريد أن أذهب إليه فى هذا المقام هو أن أؤكد أن المفهوم العصرى للقومية يستند بالدرجة الأولى على العامل الثقافى وجوهره الأصيل واللغة الواحدة ويدفعنا ذلك إلى بعض الأفكار المرتبطة بالموضوع:

أولًا: لقد عكفت شخصيًا فى مطلع تسعينيات القرن الماضى على إصدار كتابى (تجديد الفكر القومي) ذلك أننى أيقنت أن نظرية القومية قد تغيرت وأنها لم تعد ذلك التعصب الشيفونى لعرق أو جماعة، كما أنها لم تعد مرتبطة بالانتماء الدينى ولا تخضع أيضًا للتوظيف الطائفى إنما هى شعور مشترك بثقافة واحدة ينتمى إليها كل من يرتبط بها، وذكرت فى كتابى يومها أن العربى هو كل من تكون العربية لغته الأولى وركزت على العامل الثقافى كعمود مركزى لمفهوم القومية وقد لقى ذلك الطرح تجاوبًا وقبولًا لدى كثير من شراح الفكر القومى ونظريته التقليدية، وها أنا اليوم ألح على ما كتبت عنه منذ ثلاثين عامًا لكى أقول إن المشترك الثقافى هو الفيصل فى تحديد الهوية وتوصيف القومية، ويكفى أن نتذكر أنه ليس كل العرب مسلمين وإن كانوا هم الأغلبية وأنه ليس كل المسلمين عربًا وإن كانوا هم الأقلية فأنا أدعو إلى فك الاشتباك بين المشروع الدينى والمشروع القومي، فالطرح العروبى يلتقى مع الطرح الإسلامى فى بعض النقاط ولكنه لا يتطابق معه.

ثانيًا: إن المكون الثقافى لدى الفرد هو هويته وهو الذى يحدد مسيرته ويعلن ذاته ويكفى أن نتأمل حولنا تأثير اختلاف الثقافات على حياة الأمم ونهضة الشعوب، فالثقافة هى السلوك الإنسانى وهى لغة اللسان الأولى وهى أيضًا حشد من الفنون والآداب والمعارف التى تأصلت لدى كل قومية، وأنا ممن يظنون أن العامل الثقافى هو المتغير المستقل الذى تتبعه المتغيرات الأخرى عند دراستنا لمفهوم القومية بمعناها العصري.

ثالثًا: إن الذين يكتبون فى العلاقات الدولية المعاصرة يؤكدون أن العامل الثقافى يتصدر المقدمة وأنه يلعب دورًا حاكمًا فى توجيه القوميات وتحديد الهويات، إنه بالتأكيد ذلك الذى يسهم فى تحديد شخصية الدولة وتعظيم مكانتها، وعندما كنت سفيرًا لبلادى فى العاصمة النمساوية اكتشفت أن جانبًا كبيرًا من عملى يقع تحت عنوان التبادل الثقافى ولاحظت أن تلك المناسبات بين دولتين تهتمان بذلك النمط من الثقافة الوطنية وتشتركان فى كثير من الثوابت التى تجعلهما أقرب مما لو كان الأمر توافقًا سياسيًا أو تكاملًا اقتصاديًا، فالثقافة لغة الشعوب التى تتجاوز خلافات النظم ومواقف الحكام.

رابعًا: إن العروبة تقف فى مقدمة من ينتمون إليها ولا تتأثر بالخلافات المذهبية أو الدينية، ولعلنا نتذكر أن الشيعة العرب فى العراق حاربوا ضد إيران تحت رايات صدام من منطلق قومى يعتمد على الثقافة بالدرجة الأولى بل إن الخلاف بين العرب وإيران هو خلاف تقليدى بين الفرس والعرب وليس خلافًا بين الشيعة والسنة كما يحاول بعض الدخلاء على المنطقة تصويره، ونحن لا نرى مبررًا لإشعال الفتن الطائفية فى ظل بعض الرؤى المتعصبة أو الأفكار القليلة النظر المحدودة البصيرة.

خامسًا: إن الثقافة تجمع ولا تفرق لأنها تستند إلى طرح أخلاقى وتنطلق من دافع شعبوى يؤمن بالثقافة هوية وشخصية وسلوكًا وفكرًا، فالعامل الثقافى دائمًا يؤدى إلى حالة من الارتياح ويجعل كل الأطراف المرتبطة به فى حالة قبول طوعى ورضًا شامل فالآداب والفنون توحد البشر وتلقنهم معانى فاضلة تتغلب على كل أنواع الفرقة والاختلاف وتضرب العنف والإرهاب.

هذه ملاحظات رأينا أنها واجبة الاهتمام فى هذه المرحلة من مسيرتنا بعيدًا عن التطرف والتعصب والعنصرية.. إننا جميعًا قوميات وأممًا وشعوبًا نمضى فى قارب واحد، وكلما أقمنا جسورًا بين الثقافات بنينا روافد أكثر للحضارات، إذ أن عصور النهضة فى تاريخ الأمم والشعوب قد اعتمدت بالضرورة على العامل الثقافى قبل سواه!


لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى الفقى

رابط دائم: