سألوا بليغ حمدى مرة عن رأيه فى هوجة الأغانى الشبابية، فأجاب بهدوء وتعقل: «اتركوهم يغنوا، فهذا أفضل من ألا يغنوا على الإطلاق»!
كان بليغ وقتها يتحدث عن جيل حميد الشاعرى وحنان وإيهاب توفيق، الذى تسلم راية الغناء من هانى شاكر والحجار وثروت ومنير، والذى حمل بدوره اللواء بعد وردة وفايزة ونجاة ومحرم ورشدى وقنديل.
نعم، قد يكون الغناء «الغلط» أفضل من الـ«لا غناء»، وقد يكون أفضل من «الإفرنجى» الذى لا يناسبنا ولا يعبر عنا، ولكن دائما وأبدا، الغناء الجيد والرديء، وجهان لعملة واحدة، ويمكن أن يتعايشا، بدليل أنه فى «بلاد بره» توجد أوبرا ويوجد غناء شوارع وقح، ويوجد «بوتشيللى» ويوجد «إيمينيم»، وعندنا أيضا، يوجد حمو بيكا وشطة وشاكوش ورمضان، ولدينا أيضا أنغام ومحمود درويش ومى فاروق وإيمان عبد الغني، وحفلاتهم «كومبليت»، ولكل فئة جمهورها، فالفنان يقدم ما يريده جمهوره، والجمهور نفسه «يشترى» الفنان الذى يناسب ذوقه وأخلاقه وتربيته، وفى كل الأحوال، على «الصح» أن يكافح ليطرد «الغلط»، ويغطى عليه، وهذا هو ما حدث فى كل العصور.
فى فترة ما من عمر مصر، كان من يملك المال هم موظفى الجيش الإنجليزي، وكانت أذواقهم «مش قد كده»، ولذلك، كانت الموضة وقتها شكوكو الذى كان يغنى «جرحونى وقفلوا الأجزاخانات»، ووقتها غنى عبد العزيز محمود للتاكسي، وغنى أيضا «يا شبشب الهنا.. يا ريتنى كنت أنا.. وقلبى فرشتك»، ولكن الفارق، أن هؤلاء كانوا يغنون لجمهور يناسبهم، ولم يضيق عليهم أحد، وإنما كان معهم فى الوقت نفسه أم كلثوم تغنى «ولد الهدى» و«أراك عصى الدمع» و«ريم على القاع بين البان والعلم»، وكان عبد الوهاب يغنى الكرنك وكليوباترا ومجنون ليلي، وفى النهاية، لم يصح إلا الصحيح، وعاشت وبقيت أغنيات عمرها قرابة قرن من الزمان لأم كلثوم وعبد الوهاب، واندثرت أغانى التاكسى والشبشب، بل اندثرت «فيك عشرة كوتشينة» و«الدنيا سيجارة وكاس» التى غناها عبد الوهاب شخصيا!
بليغ بعبقريته وعظمته لم يذبح أحدا، أما نحن، فالسكاكين جاهزة ضد كل ما هو جديد أو غريب.
عبد الحليم رشقوه بالطماطم فى بدايته، ثم أصبح «العندليب»، رشدى سخروا من غنائه لــ«وهيبة» و«عدوية»، إلى أن أثبت أنه صوت «طين» مصر، نوح هوجم على صوته الجهورى وشعره المنكوش وسوالفه العريضة وقميصه المنفتح على مصراعيه، واتهموه بإفساد الغناء، ولم نعرف قدره إلا بعد رحيله، كعادتنا!
عدوية حورب، وأغانيه وصفت بأنها غير محترمة، ولكنها الآن روائع، إذا ما قورنت بأغانى «المخدرات» التى نسمعها هذه الأيام!
حتى منير تعاملوا معه بعنصرية عندما غنى «بنتولد» و«أمانة يا بحر»، واستكثروا عليه مناطحة الكبار!
الشيخ إمام أيضا كان من الممنوعات، وكلمات نجم كانت عامرة بكل ما هو شاذ وعيب وحرام، ومع ذلك، كانت مدرجات الجامعة تنقلب رأسا على عقب فى حفلاتهما، ولا يزال أشقاء خليجيون ولبنانيون ومغاربة يحفظون أغنيات هذا الثنائى عن ظهر قلب، ويتداولون تسجيلاته فيما بينهم كالتحف النادرة، وهى فعلا كذلك.
كل ما سبق لا يعنى على الإطلاق أننا سعداء بما يقدمه جيل المهرجانات، فهو جيل أسود و«مهبب» بكل ما تعنيه الكلمة، ولكن لا ننسى أنهم أيضا يعبرون عن جمهور أسود ومهبب مثلهم، تشكلت أخلاقه فى ظل مجتمع فشل فى القضاء على القمامة والتوكتوك والميكروباص، بل الصادم أن جمهور المهرجانات اتسع بصورة تؤكد أن الدنيا فلتت، ولن يفلح معها حظر أو هانى شاكر!
يقسم لى صديق حضر زفافا أرستقراطيا فى مكان فاخر، أنه فوجيء بأن 99% من الأغنيات التى رقص عليها العريس والعروسة والمدعوون هى أغانى المهرجانات، وكان واضحا أن جميع الشباب والفتيات الذين كانوا يرقصون بسعادة على إيقاعاتها يحفظون كلماتها عن ظهر قلب وكأنها «الأطلال»، رغم أن جميعهم كانوا طلبة مدارس وجامعات من التى تزيد مصاريفها على 100 ألف جنيه سنويا، وربما كان الاستثناء الوحيد فى الحفل أغنية يتيمة لعمرو دياب!
إذن، إتركوهم يغنون، فمصر تتسع لكل أنواع الغناء، ومن لا يعجبه لون فلا يسمعه!
حاربوا المهرجانات بالفن الجيد، وانتقدوهم، وحاسبوهم بالقانون إذا خالفوه، كما فعل هانى شاكر «قمر» الغناء العربي، لكن القمع والاحتقار والحظر الشامل و«تنمر» السوشيال ميديا عليهم عيب، ولن يأتى إلا بنتيجة عكسية، وسترون!
ورمضان تحديدا كممثل أو فنان يحتاج إلى تقويم، و«استعدال»، لا لأن ندمره، لمجرد أنه «اغتنى»، أو لأن طيارا أخطأ، أو ربما لأنه وقف مع الدولة فى حفل «المنصة» الشهير يوم 27 سبتمبر!
وبالمناسبة، وعذرا للمقارنة، هل تذكرون ما فعلناه فى بليغ نفسه؟!
.. «كده برضه يا قمر»؟!
لمزيد من مقالات هانى عسل رابط دائم: