وقر فى ضمير كثير من خبراء النظم السياسية أن المصريين لا يميلون إلى الحزبية بمعناها السياسى ودورها فى إدارة البلاد؛ وتحدث بعضهم بإسهاب عن مفهوم التنظيم المسيطر الذى يصل إلى حد يكاد يكون فيه الحزب الأوحد؛ ويضربون على ذلك مثالًا بحزب الوفد الذى ظل لعدة عقود متربعًا فى قلوب أتباعه باعتباره حزب الأغلبية الذى يجسد آمال المصريين وتطلعاتهم فى تحقيق الاستقلال وصيانة الدستور، وكان الوضع مقبولًا بشكل نسبى لأن الأغلب الأعم من المصريين ارتبط بذلك الحزب الذى كان يمثل وعاء الحركة الوطنية والذى توارثته العائلات فى القرى والمدن، ولذلك لم يكن غريبًا أن نجد المسار الحزبى فى مصر ممتدًا بأسماء العائلات نفسها منذ مجلس شورى القوانين مرورًا بحزب الوفد حتى كانت ثورة يوليو 1952 التى تغير بها كل شيء، ووجدنا العائلات نفسها تزحف نحو هيئة التحرير ثم الاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى ثم حزب مصر ثم الحزب الوطنى الديمقراطى حتى وصلنا إلى أحداث يناير 2011 وذلك معناه ببساطة أن المصريين يتمركزون حول حزب المصالح أكثر من تجمعهم حول حزب المبادئ، ولقد أدرك من يقفون وراء تلك التنظيمات السياسية أهمية الدور الذى يلعبه سكرتير عام الحزب أو أمينه العام كما نطلق عليه حاليًا باعتباره بؤرة تجسد مجموع المصالح التى يلهث وراءها الأعضاء، فكان فؤاد سراج الدين سكرتيرًا عامًا لحزب الوفد باعتباره وزيرًا للزراعة ثم الداخلية وعلى النمط نفسه كان يوسف والى أمينًا عامًا للحزب الوطنى الديمقراطى فى غزل مباشر لأبناء الريف المصرى وارتباطهم - حينذاك بالمسئول الأول عن الزراعة فى البلاد، ولقد ذكرت مرارًا أن زملاءنا الطلاب العرب فى أثناء الدراسة الجامعية كانوا يعيّروننا بأن لدينا حزبين فقط هما (الأهلى والزمالك) ساخرين من غياب الكيانات الحزبية فى مصر، ولقد ظل حزب الوفد تحديدًا هو النموذج الأفضل للحزب السياسى فى مصر لأنه نشأ من القاعدة إلى القمة ولم يحدث العكس مثلما تكوّن حزب الشعب فى ثلاثينيات القرن الماضى بإخراج من إسماعيل باشا صدقى فكان شأنه شأن أحزاب الأقلية التى تُفرض فوقيًا لتهبط على الناس بالبراشوت بينما كانت حالة التعلق المصرى بحزب سعد زغلول ومصطفى النحاس متجاوزة الحدود تمامًا، فالوفديون هم من قالوا: لو رشح الوفد حجرًا لانتخبناه، وهم أيضًا من قالوا: يحيا الوفد ولو فيها رفت، وبلغ بهم الشطط وصولًا إلى مقولتهم الغريبة: (الاحتلال على يد سعد خير من الاستقلال على يد عدلي)، ومن قبيل الدقة والأمانة فإننا نزعم أن الأحزاب المصرية لم تكن أحزابًا مطابقة للنمط الأوروبى بالمفهوم الحديث لمعنى الحزب السياسى المعاصر ولو أخذنا بمعايير فقيه دستورى كبير مثل (موريس دوفرجيه) الفرنسى فسوف نكتشف أن الأحزاب المصرية كانت تجمعًا بشريًا عفويًا فلم يكن الانضباط الحزبى صارمًا ولم تكن تشكيلات الأحزاب تتأثر بالمؤشرات العلمية الحديثة بالمعنى العصرى للحزب السياسى كما أسلفنا، وفى ظنى أن هناك بعض العوامل المؤثرة فى ازدهار الأحزاب السياسية وأهمها:
أولًا: توافر مناخ سياسى مفتوح يسمح بحرية الحركة ويعلى من قدر الأحزاب إلى جانب بيئة وطنية حاضنة للقوى السياسية الصاعدة على اعتبار أن الأحزاب هى مدارس لتخريج الكوادر التى تملأ الفراغ السياسى وتقود الحركة فى حيوية وبدماء متجددة.
ثانيًا: وجود أهداف محددة لمجموعة بشرية تسعى للوصول إلى السلطة، فإذا انتفت هذه الصيغة فإننا نكون أمام تجمع أقرب إلى مفهوم الجمعية التعاونية منه إلى التكوين الحزبى الذى لا بد أن يسعى للوصول إلى السلطة باعتبار ذلك شرطًا أساسيًا للحديث عن حزب سياسى حقيقي، فلابد للحزب من إطار فلسفى ومعه تشكيل مؤسسى بحيث تكتمل له مظاهر البقاء وعوامل الاستمرار. ثالثًا: إن ارتباط الحزب السياسى بزعامة تاريخية يؤدى دائمًا إلى درجة عالية من الارتباط بين قمة الحزب وقاعدته، واللافت فى الأمر أن المشرق العربى قد عرف أحزابًا متشددة فى أفكارها ومتجمدة فى أيديولوجياتها وهنا نشير إلى تجربة حزب البعث العربى الاشتراكي, على سبيل المثال, وهو الذى كان يسيطر على قطرين عربيين كبيرين إلى أن تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال. رابعًا: إن آلية التصعيد الحزبى يجب أن تكون مستقلة وقائمة على أسس موضوعية وبعيدة عن الأهواء المرحلية أو المظاهر الديماجوجية، وكثيرًا ما رأينا أحزابًا تجرى سرقة أهدافها وتتحول إلى مجموعة مصالح مشتركة لا تقف على أرضية وطنية ولا تدرك معنى أن الوطن فوق الجميع. خامسًا: إن التدريب السياسى هو أحد المظاهر التقليدية فى إطار الأنشطة الحزبية ولذلك عكف كثير من الأحزاب على ممارسات تجعلها أقرب ما تكون إلى مدارس للتدريب السياسى المطلوب فى القيادات الجديدة. وجدير بالذكر, بعد أن استعرضنا الملاحظات السابقة, أن النظام البرلمانى يعزز من دور الأحزاب كما يتعزز بها من بدايته، أما النظام الرئاسى فتحت مظلته قد يتراجع دور الأحزاب ولا تتحقق لها فرص المشاركة فى الحياة السياسية بشكل فعال .. إنها معادلة صعبة ولكنها ليست مستحيلة التحقيق، ولذلك فإننى من أنصار الدولة البرلمانية وإن كنت أظن أن الحالة المصرية غير مواتية لها بحكم ضعف الحياة الحزبية وتغول السلطة التنفيذية وتراجع المؤشرات التى تشير إلى الانتقال من مرحلة الوضع المختلط بين السمات البرلمانية والخصائص الرئاسية حتى نصل إلى توازن دقيق يمهد لدولة برلمانية عصرية حديثة.
لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى الفقى رابط دائم: