أريد من هذا العنوان أن أبحث فى مضمون العلاقة الإسرائيلية الأمريكية، ولأن إسرائيل كيان قام على أساس دعاوٍى دينية فقد رمزنا إليها بحائط المبكي؛ ولأن الولايات المتحدة الأمريكية تمثل القوة الأكبر والأكثر ثراءً فقد رمزنا لها بمقر رئيسها ونعنى به البيت الأبيض، والواقع أن إسرائيل لم تعدم وسيلة منذ بدايات الحركة الصهيونية فى أن تجد لها حليفًا قويًا، ولقد حاول الصهاينة الأوائل من البداية مع نابليون بونابرت ومع السطان العثمانى إلى أن وجدوا ضالتهم فى الحليف البريطانى الذى أهداهم وعد بلفور عام 1917 وهو ذلك الوعد الذى نطلق عليه (لقد أعطى من لا يملك لمن لا يستحق)، وظلت الشراكة البريطانية بيهود فلسطين قوية ومتنامية إلى أن رفعت بريطانيا إعلانها بإنهاء الانتداب على نحو أدى إلى قيام دولة إسرائيل بعد رفض العرب قرار التقسيم، وفى مطلع الخمسينيات انتقلت الرعاية البريطانية تلقائيًا لتصبح رعاية فرنسية للدولة العبرية، ومصدر ذلك هو شعور إسرائيل بالحاجة إلى حليف أوروبى قوى ووجدت هذه المرة إسرائيل ضالتها فى جمهورية فرنسا التى دعمت المشروع الإسرائيلى النووى وأنشأت معها مفاعل ديمونة الذري، لقد كانت المشاركة الفرنسية لإسرائيل فى تلك الفترة هى محاولة أيضًا لتأديب عبد الناصر الذى كان يساند بقوة ثورة التحرير الجزائرية، فضلًا عن التوتر الذى كان يسود العلاقات بين عبد الناصر والقوى الكبرى حينذاك، ولكن التطلع الإسرائيلى من حائط المبكى كان يرنو مباشرة الوصول إلى البيت الأبيض بل الأمل فى السيطرة عليه لأنه مركز الثقل العالمى ومقر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ولقد اقتربت الدولتان بصورة تجاوزت الأنماط التقليدية للعلاقات الدولية المعاصرة، وسوف نبسط الآن ما قدمناه من خلال المحاور الخمسة الآتية:
أولًا: لقد قامت الحركة الصهيونية بجهود معروفة تاريخيًا قبل مؤتمر بازل الذى تزعمه واحد من كبار آباء الحركة وهو تيودور هيرتزل عام 1897، فقد سعى زعماء الحركة إلى البلاط العثمانى بعد أن فاتحوا نابليون بونابرت فى أوج مكانته ولكنهم لم يجدوا آذانًا صاغية، خصوصًا أن السلطان العثمانى كان قد وصل إلى مرحلة لا يستطيع فيها أن يتخذ قرارًا بهذا الحجم، حيث كانت تركيا هى رجل أوروبا المريض، ومع ذلك حاولت الحركة الصهيونية استغلال الحرب العالمية الأولى حتى اعتبرهم الألمان سبب هزيمتهم، وهو الأمر الذى دعا هتلر إلى أن يشن عليهم حملات انتقامية تحت شعارات النازية، وبهزيمة دول المحور وانتصار الحلفاء كان الوضع ممهدًا للسعى نحو إقامة دولتهم المستقلة وهو ما حدث بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب الكونية الثانية.
ثانيًا: لا شك أن التوافق الثقافى والفكرى بين المجتمع اليهودى المتقدم فى أوروبا وأمريكا على ضفتى الأطلنطى كان له تأثيره فى خلق تأييد عام وتعاطف شديد مع اليهود، خصوصًا مع الحديث المتكرر عن (الهولوكوست) ومعاناتهم فى الحرب العالمية الثانية، لذلك اتجه اليهود إلى الدول الأوروبية يطلبون أرضًا ووطنًا بل تعويضات مادية إذ إن ألمانيا ظلت تدفعها حتى سنوات قليلة مضت.
ثالثًا: وجدت إسرائيل فى المملكة المتحدة صاحبة الانتداب على فلسطين ما يمكن أن يحقق لها المستقبل الذى تسعى إليه بالهيمنة على المنطقة بعد صدور قرار التقسيم وخضوع المنطقة لسلسلة متصلة من التآمر ضد العرب، وهو الأمر الذى بلغ ذروته فيما يسمى نكبة عام 1948 بحيث قام البريطانيون بتمكين اليهود من أرض الميعاد كما يقولون.
رابعًا: لا شك أن فرنسا قد لعبت دورًا قويًا فى دعم الدولة الإسرائيلية الوليدة من خلال تسليح جيشها وبناء ترسانتها النووية فى سنوات مبكرة من منتصف خمسينيات القرن الماضى، كما شاركت فرنسا فى مؤامرة حرب السويس كعضو فاعل فى تحالف العدوان الثلاثى ضد مصر والمد الناصرى المنطلق من القاهرة، عندئذ أدرك اليهود بخبرتهم الطويلة أن عليهم أن يبحثوا عن حليف قوى يستمر فى حمايتهم وضمان أمنهم، ولما كان أكبر تجمع يهودى فى العالم يعيش فى مدينة نيويورك الأمريكية، فكان من الطبيعى أن تسعى حكومة إسرائيل إلى طلب ضمانات طويلة المدى وذات طابع استراتيجى من الولايات المتحدة الأمريكية وذلك ما حدث فتحقق لها ما لم تكن تحلم به وهو أمر وصل إلى ذروته فى يونيو عام 1967 تحت مسمى النكسة الذى يلخص ظروف الهزيمة الساحقة التى لحقت بالعرب وسمحت لإسرائيل بأن تبتلع أراضى جديدة من الفلسطينيين والأردنيين والسوريين والمصريين.
خامسًا: لقد تمكن اللوبى الصهيونى فى الولايات المتحدة الأمريكية من ترتيب الأوضاع حتى ظهرت مجموعة الأيباك لكى تكون منبرًا ليهود العالم فى دعمهم لإسرائيل، وبدا للجميع أن الجهود الصهيونية الطويلة قد بدأت تؤتى أكلها وتعطى إسرائيل نجاحات مستمرة ربما لا بسبب براعتهم وحدها، ولكن بسبب إخفاق خصومها وتشرذم العرب وانقسامهم وضعف سياساتهم دوليًا وإقليميًا، ورغم أن حرب عام 1973 قد ردت الاعتبار نسبيًا للعرب إلا أن صورتهم ظلت متراجعة فى الذهن الغربى على نحو جعل العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل فى تنام مستمر وتصاعد واضح. لذلك كله حق لنا أن نقول إن العلاقات بين حائط المبكى والبيت الأبيض هى تاريخ وقدر ومصير للطرفين معًا منذ البداية.
لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى الفقى رابط دائم: