هوامش على دفتر الأحوال المصرية

لا يلتقى مصريان إلا والسياسة العامة ثالثهما، وهذه ظاهرة جديدة ظهرت بشكل واضح بعد الفعل الثورى فى 25 يناير عام 2011 و 30 يونيو عام 2013 فأصبح إدراك المصريين كاملًا للعلاقة بين السياسة ولقمة العيش ولم يعد لديهم انفصال بين حياتهم اليومية التى يهتمون بها وسياسات الدولة التى كانوا لا يعبأون بوجودها، وما جرى للمصريين هو أمر وارد بالنسبة للشعوب المختلفة بعد الحروب والانتفاضات و عقب حالة القلق والتوتر التى تصيب المجتمعات من جراء التغييرات الكبيرة على مسرح الحياة العامة، وهل ينسى المصريون أن اثنين ممن حملوا لقب رئيس الجمهورية قد انتهى بهم المطاف إلى قفص الاتهام؟ إن الأحداث الكبيرة والتحولات المفاجئة منذ عام 2011 حتى الآن قد تركت بصمات قوية على المزاج المصرى العام وأصبحت أمرًا لا يمكن تجاوزه أو الاستهانة بآثاره، ولعلنا نرصد هنا بعض الملامح الكبيرة للسنوات الأخيرة:

أولًا: إن من النتائج الإيجابية للأحداث التى جرت فى مصر منذ 2011 وحتى الآن أنها أطلعت الشعب على بعض إيجابيات الجيش وقربت المسافة بينهما نتيجة الدور الذى قامت به القوات المسلحة فى أحداث 25 يناير وما بعدها خصوصًا قرارات الثالت من يوليو 2013 استجابة لإرادة الشعب الكاسحة فى ذلك الحين وهو ما يعنى أن المصريين قد تعرفوا على جيشهم وأدركوا حجمه الضخم وقدراته الهائلة ومحاولاته تخفيف المعاناة لدى الطبقات الفقيرة نتيجة إجراءات الإصلاح الاقتصادى فضلًا عن جهوده الجبارة فى تغيير شبكة الطرق إلى الأفضل فى معظم أنحاء البلاد فضلًا عن دوره فى تجديد البنية الأساسية للمرافق الحيوية.

ثانيًا: كانت الشرطة المصرية مستهدفة بالدرجة الأولى فى أحداث 25 يناير وما بعدها مباشرة، وكان أمل المتآمرين على الوطن هو أن تسقط الشرطة ولا تقوم لها قائمة حتى يمكن للجماعات المتطرفة تكوين (ميليشيات) بديلة تأتمر بأمرها وتخضع لنفوذها ولا تعنيها المصلحة العليا للوطن ولا سلامة الشعب ولكن شاءت الأقدار أن تقف الشرطة على قدميها بدعم من الجماهير وعون من القوات المسلحة حتى تغير الموقف فى فترة قصيرة وأصبحنا أمام حالة من التماسك المرحلى التى مكنت البلاد من أن تجتاز تلك الفترة العصيبة فى تاريخ الوطن.

ثالثًا: لقد اكتشفنا أن المصريين مستعدون للتضحية الحقيقية وتحمل المعاناة الصعبة ماداموا يدركون أن ذلك هو سبيل الإصلاح الذى يتقدم إلى الأمام بينما الفساد يتراجع إلى الخلف، فالشعب المصرى خصوصًا العوام منه لديهم حس خاص فى فهم ما يدور كما أن المصرى يملك فطنة تاريخية نجمت عن تراكم الأحقاب وتعاقب القرون وهو يدرك بفطرته ويكتشف بطبيعته إذا ما كان من يحكمونه مخلصين أم مضللين، وإذا اكتشف إخلاصهم فإنه يتجاوز عن الكثير ويتحمل المصاعب راضيًا من أجل المصالح العليا للبلاد والعباد.

رابعًا: إن ما مرت به مصر فى السنوات الأخيرة من عملية إصلاح كانت مؤجلة منذ عدة عقود وأصبح علينا حاليًا أن نسعى لمواجهة الحقائق وألا نلتف حول المشكلات ونقبل ترحيلها زمنيًا ونبحث عن الشعبية الرخيصة فى المدى القصير تاركين للأجيال القادمة أن تتحمل العبء الأكبر فى ظل ظروف أصعب، ولاشك أن القيادة المصرية الحالية التى تحارب الإرهاب وتتبنى الإصلاح وترفض الضغوط تبدو بوجه عام مقبولة لدى جماهير الشعب رغم بعض الملاحظات المشروعة حول أولويات العمل الوطنى فى هذه المرحلة.

خامسًا: إن المدقق فى الخريطة السياسية فى المنطقة وطبيعة الأدوار التى تتحملها كل دولة يتأكد من الارتباط الوثيق بين الداخل والخارج فالارتباط بينهما وثيق، ولا يمكن أن نتحدث عن دولة قوية خارجيًا بينما هى منهارة داخليًا ولا عن دولة قوية داخليًا بينما هى متراجعة خارجيًا ولذلك فإن الجهود المبذولة فى الداخل المصرى لابد أن تنعكس وبالضرورة على الوزن الإقليمى لمصر، ودعنا نعترف أن ذلك الوزن قد فقد جزءًا منه فى بعض المراحل التالية لأحداث يناير 2011 ولكن سرعان ما استعادت مصر معظم ملامح دورها الإقليمى ووزنها العربي، ويكفى أن نتذكر هنا أن الجيش المصرى هو واحد من أكبر عشرة جيوش فى عالمنا المعاصر، وذلك أمر له مغزاه خصوصًا فى ظل الاضطرابات التى تجتاح المنطقة والمحاولات الخبيثة التى تستهدف سلامة الدول المحيطة بنا لذلك يصبح ضروريًا أن نقول إن مصر الخارج هى انعكاس لمصر الداخل.

سادسًا: إننى أعترف أن سلوكيات المصريين قد تغيرت تجاه بعض النماذج الإيجابية أحيانًا أو النماذج السلبية أحيانًا أخري، ولنتذكر الثمانية عشر يومًا الأولى بعد 25 يناير 2011 حيث ظهر من المصريين أروع ما لديهم وبدأ الزعماء من مختلف الدول يتغنون بالشباب المصرى ويشيدون به وما هى إلا أيام قليلة بعد ذلك حتى ظهر من المصريين أسوأ ما لديهم كما تحول الشارع المصرى فى بعض أجزائه إلى حالة من الفوضى الممتزجة بالقلق وعدم القدرة على استشراف المستقبل والتنبؤ بأهم أحداثه.

سابعًا: إن الحالة المصرية فى هذه المرحلة تجسد نموذجا بدأ يشيع فى المنطقة كلها حتى أصبحنا نرى بعض الدول حاليًا ونقول هذه مصر قبل 2011 وتلك هى مصر أخرى قبل 3 يوليو 2013 بينما مصر القوية الكبيرة لا نكاد نجد لها نموذجًا على الساحة الإقليمية فى الوقت الراهن.

إنها مصر السيادة والريادة رغم كل التحديات والضغوط وثقافة الكراهية التى يحملها أعداؤها وخصومها على السواء.