سوف تظل شخصية الحبيب بورقيبة ـــ بطل الاستقلال فى دولة تونس ـــ شخصية مثيرة للجدل لم تنل حظها من الدراسة فضلًا عن أنها لم تحظ بتكريم يتناسب مع ما قدمه ذلك الزعيم الذى كان سابقًا لعصره واسع الأفق بعيد النظر، وذلك لا ينفى أنه كان لديه شطحات يصعب فهمها أو القبول بها، ولكنه فى عمومه استطاع أن يجعل من تونس نموذجًا مختلفًا فيما يتصل بقضايا تمكين المرأة وتعدد الزوجات والطلاق المقنن فضلًا عن فهم خاص لمقاصد الشريعة الإسلامية قد لا نوافقه فى كل ما ذهب إليه ولكننا لا ننكر عليه أنه كان رائدًا اجتماعيًا وليس مجرد زعيم سياسى أو بطل للاستقلال، ومازال الكثيرون يتندرون بمحاولته دخول مصر من حدودها الغربية فى أربعينيات القرن العشرين عبر مدينة (السلوم) وكيف أن الجندى الذى استقبله قد سخر من اسمه فهو لا يعرفه من قبل وعندما قال له (بورقيبة) إن مرتبته فى بلاده تعادل سعد زغلول أو مصطفى النحاس استغرق الجندى فى ضحكاته وكاد يعيده من حيث أتى وقد ظل الحبيب بورقيبة يتذكر هذه القصة التى لا تنسى، وقد تأثر بالمدرسة الفرنسية فى الفكر والثقافة وظل وفيًا لها فى أعماقه كما كانت زوجته الأولى فرنسية وهى أم الحبيب بورقيبة الابن الذى كان وزيرًا فى بلاده قبل أن يعود إلى فرنسا ليقضى هناك معظم سنوات عمره، وقد تزوج من السيدة (وسيلة بن عمار) وكانت قوية الشكيمة شديدة التأثير إلى أن دخلت فى صراع مع ابنة اخته السيدة (سعيدة) فضلًا عن علاقاتها الوثيقة بالقيادات الفلسطينية التى كانت موجودة على أرض ذلك البلد العربى المتميز، وقد أطاح بورقيبة بزوجته (وسيلة) فى انقلاب عائلى داخل القصر وأبعدها عنه إلى أن نجح زين العابدين بن على فى الإطاحة به هو الآخر فى نوفمبر 1987 وأبعده إلى مدينته الأصلية ليقضى سنوات الشيخوخة المتأخرة فى عزلة مع اعتراف من الجميع بأنه أب التوانسة وبطل التحرير، وهنا نركز على قضيتين أساسيتين ترتبطان بشخص بورقيبة:
الأولي: تتصل بزيارته إلى القاهرة عام 1965 ولقائه بالرئيس عبد الناصر الذى احتفى به فى البداية حتى منحته جامعة القاهرة درجة الدكتوراه الفخرية، وقد كنت يومها طالبًا فى الجامعة وشهدت تلك المناسبة فى قاعة الاحتفالات الكبرى وما أن غادر بورقيبة مصر إلا وأدلى بتصريحات (أريحا) الشهيرة التى طالب فيها بالتدرج فى حل المشكلة الفلسطينية مؤكدًا مبدأ (خذ وطالب) ووقع يومها تحت طائلة الإعلام المصرى القوى حينذاك الذى هاجم بورقيبة هجومًا عنيفا واعتبره متنكرًا لثوابت القضية الفلسطينية. وما زلت أتذكر عنوان مقال هيكل الأسبوعى (بصراحة) فى الأهرام وكان هو (لغز سى الحبيب) وأنا أظن الآن بعد سنوات طويلة أن الحبيب بورقيبة لم يرتكب جرمًا ولكنها كانت وجهة نظر تستحق النقاش ولا تستدعى الهجوم ومع ذلك فإن لكل أوان أفكاره وأطروحاته وفقًا لروح العصر ومقتضيات الزمان.
أما القضية الثانية: فهى فهمه الخاص للإسلام وأركانه حتى إنه أباح إفطار رمضان وحاول أن يتقدم بمفهوم عصرى لروح الإسلام خصوصًا فيما يتصل بالإسلام وعلاقته بالتطور الاجتماعى، ولابد هنا أن ألفت النظر إلى أن الإسلام فى شمال إفريقيا خصوصًا تونس والجزائر والمغرب رغم رسوخه الشديد إلا أنه تأثر أيضًا ببعض الأفكار الغربية والتيارات الأوروبية، ولقد سمعت من زعيم الإخوان المسلمين هناك (راشد الغنوشي) على مائدة غذاء بدعوة منه فى تونس بعد ثورات الربيع العربى قوله: (إن الإخوان المسلمين لا يعارضون أفكار بورقيبة، ويعترفون بانجازاته ويتفهمون قراراته فى هذا السياق ولقد كان بحق سابقًا لعصره)، ولقد لاحظت أن هناك تداخلًا بين التيارات الفكرية والمواقف السياسية لدى عدد من القيادات التونسية وأتذكر أننى تناولت الغذاء على مائدة الرئيس التونسى الأسبق منصف المرزوقى فى القصر الجمهورى من خلال علاقته الوثيقة بالصديق السفير قيس العزاوى أمين عام مساعد جامعة الدول العربية حاليًا وذلك فى إطار الصالون الثقافى العربى الذى أتشرف برئاسته، وتحدث يومها الرئيس المرزوقى عن تقديره لعبد الناصر وتاريخه حتى إن صديقنا الأستاذ الكبير محمد الخولى قد اعتدل فى جلسته وأصابته نشوة شديدة بسبب عشقه المعروف للزعيم العربى الراحل، والغريب أننا اكتشفنا فيما بعد أن منصف المرزوقى الذى كان لاجئًا سياسيًا فى فرنسا فى فترة حكم بن على وهو مثقف تونسى كبير له أيضًا امتدادات فكرية لا تبتعد كثيرًا عن بعض توجهات الإخوان المسلمين وتتلامس أيضًا مع بعض أفكار اليسار الفرنسى وهذا التشابك الفكرى فى ظنى ظاهرة إيجابية يتمتع بها التونسيون الذين يجب أن يذكروا وأن نذكر معهم فضل الحبيب بورقيبة الذى يحتاج إلى شيء من رد الاعتبار بعد سنوات طويلة من رحيله ويذكرنى ذلك بنماذج للاختلاف عن التيار العام والتغريد خارج السرب، وأتذكر زعيمًا سياسيًا اختلف مع سعد زغلول قائد ثورة عام 1919 ورمزها الأول وأعنى به عدلى يكن وتوجهاته المعتدلة فى المفاوضات مع الإنجليز من أجل الاستقلال، بينما شعارات الوفديين تقول (الاحتلال على يد سعد ولا الاستقلال على يد عدلي)، ولماذا نذهب بعيدًا فإن ما قام به رجل الدولة أنور السادات وزيارته للقدس هو الآخر تأكيد لاجتهاد قد لا يقبله الكثيرون، ولكنه يبقى اجتهادًا سياسيًا ربما سبق عصره وجاء قبل أوانه ولكنه لم يخرج على إطار الوطنية المصرية ولا حتى القومية العربية.
لمزيد من مقالات ◀ د. مصطفى الفقى رابط دائم: