رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

البحث العالمى للقيم يرصد عالمنا المتغير

يشهد عالمنا المعاصر تغيرات فى كل جوانب الحياة، بدءا من جوانبها الاقتصادية المادية وانتهاءً بجوانبها الثقافية المعنوية. وقد التفت عدد من الباحثين منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضى إلى أهمية رصد هذه التحولات، فبدأ هذا المشروع البحثى الذى تحول الآن إلى مؤسسة بحثية ضخمة تسخر كل عملها لخدمة دراسة القيم عبر العالم. ويطلق على هذا المشروع المسح العالمى للقيم، وهو مسح يجرى بشكل دورى (كل أربع سنوات) على عدد من الدول حول العالم يتزايد بشكل مستمر باستخدام أداة موحدة لجمع البيانات تتمثل فى استمارة استبيان أصبحت الآن مشهورة فى الدوائر البحثية بوصفها أداة دقيقة فى تصميمها وشاملة فى مضمونها. ولقد بلغ عدد دورات البحث سبع دورات بدأت الأولى عام 1981 ونشرت أعمالها عام 1984، وبدأت السابعة عام 2014 وتنشر أعمالها هذا العام (2019). ولقد دخلت مصر ضمن الدول التى تمت دراسة القيم فيها دورتين من هذه الدورات.

ويتعامل البحث مع موضوع القيم فى ضوء رؤية عامة لعمليات التغير الواسعة النطاق التى تحدث فى الدول التى يغطيها. ومن هذا المنطلق فإن البحث يدرس المعتقدات والقيم، ومستوى التنمية الاقتصادية، والتحول الديمقراطي، وأشكال التدين وصور التمييز الديني، وتأثير العولمة والاتجاهات نحو البيئة والعمل والأسرة والسياسة، والتعددية الثقافية والهوية الوطنية. والمساواة بين الجنسين، ورأس المال الاجتماعي، ومدى الشعور بطيب الحياة والأمن والسعادة. ويقدم البحث نتائج مهمة يمكن أن تساعد رجال السياسة وصناع القرار فى السياسات العامة على تبنى آراء سديدة وسياسات رشيدة تقوم على فهم طبيعة التغيرات الحاصلة فى مجتمعهم وفى المجتمعات المحيطة بهم وفى العالم بشكل عام. وهذا هو الهدف المقصود من مثل هذا البحث، ولكن ثمة أهدافا أخرى مهمة منها على سبيل المثال إمكانية المساعدة فى تحقيق فهم مشترك فى عالم تطحنه الحروب والنزاعات وأشكال التطرف المختلفة، معهم التنوع فى ثقافات العالم، وفهم الاختلافات فى الاعتقاد والاتجاهات، يسهم فى مزيد من التقارب والتفاهم بين الشعوب، إنه يخلق أرضية مشتركة للفهم والحوار والتعايش وقد عبر أحد القادة السياسيين فى عالمنا المعاصر (رمانو برودى رئيس وزراء ايطاليا الأسبق) عن هذا الهدف للبحث العالمى للقيم عندما أكد أن تزايد مؤثرات العولمة عبر العالم تفرض علينا أهمية التنوع، بحيث يمكن للأفراد المختلفين فى المعتقدات والقيم أن يعيشوا معا وأن يعملوا سويا، ولا يمكن لذلك أن يحدث إلا بفهم واستيعاب لرؤى العالم الخاصة (بكل مجتمع). وتعكس هذه الكلمات فكرة مهمة فى فهم طبيعة التنوع والتكامل، فالتنوع العام والتكامل العام لا يتحققان إلا بفهم لما هو خاص، أى فهم الثقافات المحلية للشعوب وطرائقها فى التفكير والعمل، هذا ما يقدمه البحث العالمى للقيم. وفضلاً عن هذا، فإن النتائج التى تستخلص من المسح عبر دول العالم المختلفة تمكن من المقارنة بين الدول فى ضوء المؤشرات الأساسية التى يقوم عليها البحث، حيث يمكن لكل دولة أن تعرف تيارات التغير الحادثة فيها، خاصة فيما يتصل بقيم الناس واتجاهاتهم الأمر الذى يمكن من التعرف على أكثر الدول استقرارا وتكاثرا فى رأس المال الاجتماعى وأرصدة القيم الإيجابية.

ولقد توصل بحث القيم العالمى إلى عدد من النتائج المهمة التى تمكنا من فهم طبيعة التغير فى عالمنا المعاصر. ومن أولى هذه النتائج الوقوف على طبيعة التناقضات التى تعانيها المجتمعات المعاصرة الناتجة عن التوتر بين أزواج قطبية من القيم، كالتوتر بين القيم التقليدية والقيم العقلانية والعلمانية، والتوتر بين قيم البقاء والقيم التعبيرية. وعلى المستوى الأول (التقليد فى مقابل العقل) نجد التناقض بين النزعة السلفية والنزعة القومية، واحترام السلطة، والولاء للعائلة والقيم الأسرية التقليدية من ناحية والقيم العقلية التى تؤكد المستقبل والمواطنة والحرية الشخصية والتعددية من ناحية أخري، أما على المستوى الثانى فإننا نجد التناقض بين قيم البقاء المتمثل فى تفضيل الأمن عن الحرية، وعدم قبول المساواة بين الجنسين، والسلبية السياسية والإحساس المنخفض بطيب الحياة والسعادة، والقيم التعبيرية التى تتشكل عبر قيم حداثية عن الحرية والمساواة والمشاركة والشعور المرتفع بالسعادة.

ومن النتائج المهمة التى كشف عنها البحث إمكانية رسم خريطة ثقافية للعالم، تكشف عن التوزيع الجغرافى أو المناطقى للقيم. فقد كشف البحث عن أن القيم التقليدية وقيم البقاء تنتشر أكثر فى المجتمعات الإسلامية فى الشرق الأوسط، فى حين تنتشر القيم العقلانية والعلمانية فى الدول التى تدين بالبروتستانتينية شمال أوروبا. أما المجتمعات التى تعرف قدرا من الديمقراطية والاستقرار الوجودي، فإنها تشهد انساقا تحررية من القيم. وهكذا يمكن أن نحدد لكل منطقة فى العالم أنساقها القيمية الخاصة. والأمر الأهم من ذلك هو ما يترتب على انتشار نوعية معينة من القيم من سيادة لأنماط سلوكية بعينها. فقد كشف البحث عن أن العنف يزداد فى المجتمعات التى تنتشر فيها قيم البقاء والقيم التقليدية، أما المجتمعات التى تعرف القيم التعبيرية أو القيم التحررية فإنها تطور أشكالا أقل من العنف، وتميل العلاقات فيها نحو السلام والأمن.

ولعلنا ندرك أهمية مثل هذه النتائج فى فهم التغيرات التى تحدث فى العالم. وفى فهم طبيعة الاختلاف بين الأجيال فى استيعاب هذه التغيرات. ولكن الأهم من هذا الإدراك هو أن ندرك جميعا (أفرادا ومؤسسات أكاديمية وحكومة) أهمية البحث العلمى الاجتماعى فى فهم حركة المجتمع وتغيره، وأن نأخذ النتائج التى تتوصل إليها البحوث العلمية الاجتماعية مأخذ الجد، وأكثر أهمية من ذلك أن ندرك أن بناء الأوطان، وبناء الإنسان حامل القيم الإيجابية، يتطلب جهدا كبيرا، جهدا أكبر وأعمق من الحديث المرسل، وتغيير نظم التعليم ونظم الثقافة ونظم التنشئة الاجتماعية، جهدا يضع هدفه صوب محو كل صور القلق الوجودي، ومحو كل صور التعلق بالماضي، وكل صور اللامبالاة، باختصار يضع هدفه نحو كرامة الفرد، ووجوده الآمن السعيد، أينما كان موقع هذا الفرد أو مكانه.


لمزيد من مقالات د. أحمد زايد

رابط دائم: