منذ أن طرح الرئيس الصينى شى جين بينج مبادرة الحزام والطريق بمكونيها البرى والبحرى خلال عام 2013، التى تفاعل معها عدد كبير من دول العالم -بما فيها حلفاء تقليديون للولايات المتحدة- اتسع نطاق الجدل العالمى والمحلى حول طبيعة هذه المبادرة، وجدوى الالتحاق بها، وحجم المكاسب والخسائر التى يمكن أن تترتب على ذلك. فى حالة مصر، ظل الوضع مختلفا. فمن ناحية، لم يكن ضم مصر إلى المبادرة من عدمه سؤالا مطروحا من جانب الحكومة الصينية، إذ لم يكن استبعاد مصر من المبادرة أمرا مطروحا من الأساس، ليس فقط بالنظر إلى صعوبة الهروب بعيدا عن قناة السويس بالنسبة للتجارة بين الصين وأقاليم أخرى مهمة، لكن بالنظر إلى موقع مصر كنقطة تقاطع بين عدد من الأقاليم التى استهدفتها المبادرة (الشرق الأوسط، أوروبا، إفريقيا)، وهو ما جعل مصر إحدى «العقد» الأساسية على المبادرة.
على الجانب الآخر، كانت مصر حريصة على توصيل رسائل واضحة للجانب الصينى لتأكيد تفاعلها الإيجابى مع المبادرة، وأنها لا تمتلك أى تخوفات من الالتحاق بها. كان ذلك واضحا من خلال حرص مصر أن تكون عضوا مؤسسا فى »البنك الآسيوى للاستثمار فى البنية الأساسية«، والمشاركة المصرية على مستوى القيادة السياسية العليا فى منتديى الحزام والطريق الأول (مايو 2017) والثانى (أبريل 2019). هذا التفاعل الإيجابى المصرى مع المباردة والتقييم الإيجابى للمكاسب الإجمالية المتوقعة من الالتحاق بها لم يكن ليحدث لولا تأكد مصر من امتلاكها الشروط المسبقة الضرورية لذلك، بدءا من وجود اقتصاد مستقر، تطبيق برنامج ناجح للإصلاح الاقتصادى والمالي، إصلاح بيئة مناخ الأعمال، علاقات متوازنة مع جميع القوى الدولية الأخري، خضوع قرارات القروض الدولية لدراسة شاملة مسبقة. أضف إلى ذلك القرار الاستراتيجى الضخم بإضافة قناة السويس الجديدة، وتطوير منطقة غرب قناة السويس كمنطقة خدمات لوجيستية ومنطقة تصنيع جديدة.
وبعيدا عن المكاسب الاقتصادية المتوقعة، وهى عديدة، وأفاضت فيها كتابات كثيرة، هناك بعد آخر مهم لالتحاق مصر بالمبادرة، يتعلق بإعادة تعريف مصادر قوة الدولة المصرية.
هناك جدل كبير بين نظريات العلاقات الدولية حول تعريف قوة الدولة. ورغم عدم قدرة أى من هذه النظريات على تجاهل المدرسة الواقعية التى اختزلت القوة فى مصادرها المادية (الاقتصادية والعسكرية)، لكن تعقد العلاقات الدولية، وتسارع الثورات التكنولوجية، وتزايد حالة الاعتماد المتبادل، أعطى وزنا نسبيا لمدارس أخرى أعطت بدورها وزنا أكبر للمصادر غير المادية للقوة. وتقدم النظرية الليبرالية المؤسسية« مثالا على ذلك، والتى انطلقت من مفهوم مادى للقوة، لكنها أعطت اعتبارا أكثر للأبعاد والمكونات غير المادية فى بناء القوة وتحولها. وتنطلق النظرية فى تعريف وقياس القوة من مفهوم الاعتماد المتبادل اللامتماثل، ويشير إلى أن هناك تفاوتا فى درجة الاعتماد المتبادل بين الوحدات الدولية، حسب موقع كل وحدة داخل النظام العالمي. ومن ثم، فإن قدرة الدولة على التأثير والتأثر بالتغيرات التى تحدث داخل النظام العالمى تختلف من دولة إلى أخرى حسب هذا الموقع. داخل هذه النظرية تطور اتجاه لتعريف القوة يتعامل معها فى إطار ما يُعرف بالشبكات الدولية، التى تشير إلى »مجموعة من العلاقات التى تشكل هيكلا، يساعد فى تحديد أنماط العلاقة بين الفاعلين، حيث يصبح نمط وطبيعة العلاقات الهيكلية بين الوحدات لا يقل أهمية عن الخصائص المادية للوحدة الدولية. وللوقوف على طبيعة العلاقات الدولية وقوة الدولة، يركز التحليل الشبكى على دراسة الروابط القائمة بين مكونات هذه الشبكة (العقد/ الدول والروابط القائمة فيما بينها)، ودرجة الارتباط فيما بينها، ودرجة مركزية كل »عقدة« (دولة) داخل الشبكة..إلخ.
الحزام والطريق بهذا المعنى -وبجانب الربط المباشر عبر مشروعات البنية الأساسية عبر الإقليمية- تمثل إطارا لبناء مجموعة من الشبكات أو الأبنية/ الهياكل الوظيفية الجديدة داخل النظام العالمي، فى مجالات التجارة، وتدفقات الاستثمار ورءوس الأموال، والتعاون البحري، والطاقة، وغيرها. وللوقوف على الدور الذى تلعبه المبادرة فى ربط مصر بهذه الشبكات والأبنية الوظيفية الجديدة، نشير إلى مثالين فقط :
الأول، هو مجموعة المؤسسات المالية الجديدة التى ستعمل كأذرع مالية للمبادرة، مثل »صندوق طريق الحرير والبنك الآسيوى للاستثمار فى البنية الأساسية، بجانب المؤسسات التمويلية الخاصة بالمجموعات الدولية المرتبطة بالمبادرة، مثل بريكس ومؤسساتها المالية (بنك التنمية الجديد NDB، صندوق بريكس لاحتياطيات النقد الأجنبي)، وغيرها من الكيانات المالية.
الثاني، يتعلق بسعى الصين إلى تطوير »جماعة دولية« على مسار طريق الحرير البحري، من خلال العمل على تعظيم مفهوم الخدمات العامة البحرية، والعمل على إيجاد مصالح وآليات عمل مشتركة بين هذه الدول تميزها عن غيرها، وزيادة معدل الترابط والتشبيك فيما بينها. المؤشر الأهم على هذا التوجه هو طرح الصين فى يونيو 2017 وثيقة رؤية للتعاون البحرى فى بناء الحزام والطريق، والتى حددت مجالات خمسة للتعاون البحرى بين الدول المطلة على مسار طريق الحرير البحري، كان أبرزها (بجانب حماية البيئة البحرية، وتنمية واستغلال الموارد البحرية، وتعظيم الأمن البحرى المشترك، والتشارك فى بناء الخدمات العامة البحرية) التشارك فى الحوكمة البحرية وتوسيع مجالاتها، من خلال إنشاء آلية حوار رفيع المستوى بين الدول الواقعة على مسار الطريق.
هذان مثالان فقط للشبكات والأنظمة الوظيفية الجديدة التى استحدثتها »الحزام والطريق، والتى توفر لمصر مجالات جديدة للحركة، بجانب مجالات الحركة التقليدية، وبشكل يجعل منها إحدى نقاط التقاطع والاعتماد المتبادل داخل النظام العالمي، وبشكل يعظم من مصادر قوتها الشاملة. القرار الاستراتيجى بإضافة قناة السويس الجديدة، والالتحاق المبكر بالحزام والطريق كانا جزءا من قراءة مبكرة للسيسى لعمق التحولات الجارية فى قلب النظام العالمى وأبنيته الوظيفية الجديدة.
[email protected] لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات رابط دائم: