في حديثه لمجلس الشعب قال وزير المالية الدكتور محمد معيط إن لدى الحكومة خمسة ملايين موظف ليس لهم كراسي ليجلسوا عليها. التصريح فيه مبالغة مقصودة لإظهار التكلفة الباهظة اللازمة للاحتفاظ بجهاز حكومي ضخم كذلك الذي لدينا. موظفو الحكومة لديهم كراسي يجلسون عليها، لكنها كراسي قديمة متهالكة لأن الموازنة لا تسمح بشراء كراسي جديدة مريحة. إذا كان موظفو الحكومة لا يجدون لأنفسهم كراسي مريحة يجلسون عليها، فليس من المتوقع أن يجد المواطن الذي تجبره الظروف لزيارة مكتب حكومي كرسيا يرتاح عليه حتى إنهاء معاملته، فيضطر المسكين للبقاء واقفا كالمتسول أمام مكتب الموظف الجالس على الكرسي المتهالك.
أنا لا أتحدث عن «أليس في بلاد العجائب»، فهذا هو ما نمر به غالبا في كل مرة نذهب فيها لقضاء مصلحة في مؤسسة حكومية. لا أتحدث عن مكاتب المصرية للاتصالات التي نجت بنفسها، فخرجت من الحكومة وتحولت إلى شركة تقدم خدمة فائقة الامتياز، وإن كان كبار السن منا مازالوا يذكرون السنوات الطويلة التي كنا نقضيها في قوائم الانتظار لتركيب خط تليفون, والسنترالات التي كنا نقضي فيها الأيام الطويلة من أجل التعاقد ودفع الفاتورة والإبلاغ عن عطل. أنا أتحدث عن التأمينات الاجتماعية والمعاشات، ووزارة الأوقاف والتربية والتعليم ومكتب العمل والسجل المدني والمحليات, وغيرها الكثير من الوزارات والمصالح الحكومية. إنها الأماكن التي ستجد فيها الكراسي المتهالكة التي تحدث عنها وزير المالية، والتي ستجد فيها طبقات التراب تغطي كل شيء، والتي ستلاحظ فيها أن المكان لم يتم كنسه منذ شهور، ودليلك على ذلك هو حجم الأتربة والمخلفات الموجودة على الأرض وفي الأركان؛ وهي نفس المكاتب التي ستجد فيها أكواما لا حصر لها من الدوسيهات المتهالكة المتربة على الأرفف وفوق الدواليب. هذا هو ما تراه بمجرد الزيارة العادية وبالعين المجردة، وليس عندما تقوم بجولة تفتيشية لمكتب من هذه المكاتب. لن أسألك إن كنت قد جربت مضطرا أن تزور دورة المياه في مصلحة حكومية، فيا لها من تجربة مريرة. أذكر أياما عملت فيها بالتليفزيون، وأذكر الموقف العصيب الذي كنا نواجهه عندما كان الضيف الأجنبي الزائر يحتاج للذهاب لدورة المياه, وعندها كان علينا أن نكافح حتى نعثر على مفتاح دورة المياه الوحيدة الصالحة للاستخدام الآدمي، والتي كانت مخصصة لاستخدام رئيس القطاع الذي كان يقاوم مشاركة الآخرين امتيازاته الخاصة, وهي المقاومة التي كانت تلين عندما كان الرجل يتبين أن الأمر يتعلق بسمعة مصر.
لدينا في الحكومة عقول جبارة وكفاءات نادرة وواجهات مشرفة، لكن أغلب المواطنين لا يلتقون بهذه القامات الرفيعة، ولا يزورون الأماكن التي يعمل فيها أصحاب القامات. المواطنون يتعاملون فقط مع ملايين الموظفين الجالسين فوق الكراسي المتهالكة، وبالنسبة لعموم المواطنين فإن هؤلاء الموظفين وكراسيهم المتهالكة هم الحكومة، وهي صورة غير صحيحة لا يجوز الإبقاء عليها.
مكاتب الحكومة، باستثناء القليل جدا، هي أماكن غير صالحة للتعامل الآدمي، لا للموظفين العاملين فيها ولا للمواطنين المتعاملين معها، والتبعات المترتبة على هذا أكبر بكثير جدا من المعاناة التي يتحملها الموظفون والمواطنون في هذه المكاتب. لا أتوقع من موظف يعمل في هذه الظروف أن يكون سعيدا أو راضيا، ولا أتوقع منه بالتالي أن يعمل بحماسة تتناسب مع توقعات الشعب ووعود الحكومة وعظمة التحديات التي تواجهنا.
على قد فلوسهم, عبارة شائعة لتبرير تكاسل الموظفين عن العمل بكامل الكفاءة والحماس والطاقة طوال ساعات العمل المطلوبة منهم، ولكني أشك في أن الأجر المنخفض هو السبب في تراجع أداء الموظف الحكومي. على قد مكاتبهم, عبارة تشرح بشكل أفضل أسباب عدم الكفاءة ونقص الهمة وإهدار الوقت. نعم، أنا أتحدث مرة أخرى عن أولوية جودة الحياة على مستوى الدخل. في العمل بعد اقتصادي يتعلق بالأجر، وقد يكون منخفضا, وفيه بعد آخر يتعلق بالكرامة والرضا عن الذات واحترامها، وهي الأشياء التي تتولى بيئة العمل غير الآدمية هدمها. فمكان العمل غير النظيف والكراسي المتهالكة ودورات المياه ذات الرائحة العطنة، كل هذه الأشياء تشير إلى أن الحكومة التي تولت تجهيز مكان العمل هذا لم تقم بعملها كما ينبغي، وليس من المنطقي أن يعمل الموظفون بكفاءة تزيد على كفاءة صاحب العمل الذي يوظفهم.
أماكن العمل ليست مجرد مساحات يعمل فيها الناس، إنما هي أيضا رسالة قوية للعاملين فيها عن نوعية الأخلاقيات والتصرفات والألفاظ ومدى ارتفاع صوت الحديث والضحكات ونوعية النكات والملابس ومستوى الكفاءة وسرعة الأداء ورائحة ونوعية الطعام المسموح بأكله فى أثناء وقت العمل. هل تتوقع أن ترى موظفا يضع في رجله «شبشب زنوبة» في مكتب للمصرية الاتصالات أو في أحد البنوك؟ هل تتوقع أن تشم في أحد مكاتبهم رائحة الثوم النفاذة تنبعث من ساندويتش الباذنجان؟ إنها بيئة العمل تحدد المسموح والممنوع، حتى لو لم تكن هناك لوائح تنطق بذلك. الناس في بلادنا على دين حكوماتهم، وإذا كانت الحكومة ترضى لموظفيها بأماكن العمل هذه فإن موظفي الحكومة لن يرضوا للشعب بأفضل من ذلك. هل من المنطقي أن نتوقع من المسئول عن نظافة الحي أن يقوم بتنظيف الشارع إلى مستوى أفضل من المكتب الذي يعمل فيه؟ هل تتوقع منه أن يحرص على نظافة جدران المباني وبهاء ألوانها لتصبح أزهى من الجدران الكالحة لمكتبه في مبنى الحي الذي يعمل به؟
عندما تضع الحكومة موظفيها في بيئة عمل تحكمها معايير متواضعة، فإنها بذلك تحدد المعايير المقبولة في المجتمع كله، فيتولى الموظفون نشر هذه المعايير المتواضعة في أنحاء الوطن, وهؤلاء ليسوا قليلين، إنهم جيش من خمسة ملايين موظف يجلسون على كراسي متهالكة؛ وفي إصلاح ظروف عمل هؤلاء إصلاح للذوق العام ومعايير الأداء وأخلاق العمل في مصر كلها.
لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد رابط دائم: