رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

كفر ناحوم.. وأزمة الضمير الإنسانى

تلقيت يوم الجمعة الماضى دعوة لحضور فيلم فى إحدى قاعات السينما فى العاصمة الرباط، حيث كان الموعد مع كفر ناحوم الفيلم اللبنانى/ الإفريقى الذى اختصر فى ساعتى عرضه واقعا عربيا بامتياز، من محيط اجتماعى قاس وبائس، وأوضاع اقتصادية معدومة، وطفولة مهمشة، وأهل بلا مسئولية، ووعى اجتماعى غائب، ووضعية لاجئين أقل ما يقال عنها غير إنسانية. أما أبطال الفيلم فهم ليسوا سوى نماذج واقعية للمعاناة، وثّقوا حياتهم اليومية بتفاصيلها البئيسة أمام الكاميرا، دون تجميل، مما أعطى للفيلم صبغة الواقعية والعفوية، وجعل كل مشاهده حقيقية، حد الصدمة. أما بطل الفيلم، الذى قام باللجوء إلى القضاء، لرفع دعوى ضد والديه اللذين أتيا به إلى هذه الدنيا، فهو زين الرافعى ويحمل اسم زين الحاج فى الفيلم، وهو طفل فى الرابعة عشرة من عمره، اضطرته الأوضاع فى درعا عام 2012م، وعمره آنذاك لم يتجاوز السنوات السبع، الى الهروب رفقة عائلته من سوريا، بحثا عن وطن بديل لم يسعهم يوما ولم يكن رحيما بهم، شأنهم فى ذلك شأن الآلاف من اللاجئين ممن اضطرتهم الظروف الى الفرار نحو المجهول فى مخيمات للاجئين سواء فى لبنان او الاردن او فى احدى الدول العربية والاوروبية، دون أن تتاح لهم أبسط مقومات الحياة.

زين الحاج الطفل الصغير الذى قام بدور كبير، صنفه فى خانة المعجزة، وجعل كل من فى القاعة يصفقون له بحرارة، كما صفق له جمهور مهرجان كان السينمائى لمدة ربع ساعة، ليس فقط لأدائه الاكثر من متميز، ولكن أيضا لقدرته على الارتجال والإقناع، وهو الطفل الذى لم يلج المدرسة يوما، وبالكاد يستطيع كتابة اسمه. ومع ذلك فقد استطاع ان يوصل معاناته بلغته البسيطة، ونظراته الثاقبة، ومجهوده البدنى داخل الفيلم الذى تطلب قوة كبيرة رغم هشاشة جسمه النحيف. كما عكست ابتسامته البريئة فى آخر الفيلم الامل بأن القادم ربما يكون أفضل لزين الحاج الذى حصل أخيرا على اوراق ثبوتية فى الفيلم، بينما حصل زين الرافعى فى الواقع على حق اللجوء فى النرويج حيث سيحقق حلمه بالذهاب إلى المدرسة وتعلم القراءة والكتابة.

قصة زين هى قصة عدد كبير من الأطفال جاءوا قسرا الى هذه الدنيا ليكتووا بنار تناقضاتها وصراعاتها، ويخوضوا فيها معارك قاسية لم يختاروها ولم يكونوا طرفا فيها، لكن فرضت على طفولتهم المغتصبة، بدءا من عائلات مشتتة، وظروف حياتية مزرية، ووعى أخلاقى معدوم. وإذا كان زين الحاج قد رفع دعوى على الجهل الذى سيطر على عائلته التى لم تدرك مدى المعاناة التى فرضتها عليه، فدمرت طفولته وحطمت آماله، وأبسطها الحق فى التعليم، فإن هناك ألف زين آخر، يعيشون نفس الأوضاع، ويحق لهم ان يرفعوا دعوى أكبر ضد هذا العالم الذى نعيشه، والذى استوطنت فيه الحروب، وعمّ العنف والقتل، ودمر مستقبل أجيال باتوا يحملون صفة لاجئ.

قصة زين الرافعى، الطفل السورى الذى حل لاجئا فى لبنان، هى تجسيد واقعى لكل معاناة أطفال سنه الذين قست عليهم الحياة، وشردتهم الحروب، وألقت بهم فى أوطان غير أوطانهم، وسط غياب أدنى شروط الحياة. وهنا لابد من التذكير بما كشفه التقرير السنوى للمفوضية العليا لشئون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة أنّ عدد اللاجئين والنازحين فى العالم وصل إلى 68.5 مليون شخص فى عام 2017م، بينما تشير البيانات إلى أنّ نحو 70 فى المائة من اللاجئين فى العالم فروا من خمس دول فقط على قائمتها سوريا ثم أفغانستان وجنوب السودان وميانمار والصومال. لم يكن فيلم كفر ناحوم مجرد فيلم بصبغة وثائقية، بل كان لحظة مواجهة مع ضمير الإنسانية. تلك اللحظة التى نقلتها عدسات الكاميرا من أحد أحزمة البؤس؛ التى لا تعبّر فقط عن بيروت، ولكن تعبّر عن واقع أحياء هامشية فى عدد كبير من الدول العربية؛ حيث يتقاسم الأهالى مع اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين أبشع صور الفقر، وحيث تنعدم أبسط الحقوق فى حياة كريمة، وتعم الفوضى، وتتوارى الاخلاق، وتكثر الجريمة وينشط الاتجار بكل شيء، حتى البشر، من أجل ضمان لقمة العيش. وحيث البيوت الهشة والمياه الملوثة، وملامح البؤس على كل الوجوه. وحيث يكون الشارع هو الملاذ الاول والاخير، وتبقى المدرسة والتعليم الحلم البعيد المنال. ربما كانت نهاية زين داخل الفيلم ابتسامة مفعمة بالأمل. وكانت نهايته خارجه أفضل حالا من العديد من رفاقه فى الحى وفى المعاناة، حيث منحته الحياة فرصة للخروج من العالم المظلم الذى عاش تفاصيله المريرة، ليجد نفسه أمام تحقيق حلم ولوج المدرسة فى النرويج. أما مصير الآلاف من الأطفال الاخرين الذين يعيشون تحت وطأة نفس الظروف، فيبقى سوداويا ودون ملامح، فى انتظار فرصة تمنحها الحياة نادرا، أو صحوة لضمير الانسانية!


لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى

رابط دائم: