رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

مستوى المعيشة أم جودة الحياة؟

مستوى المعيشة هو مقياس للدخل، وأكثر ما يشغل الحكومات هو تطبيق السياسات الاقتصادية التى تؤدى إلى زيادة دخول المواطنين. المفارقة هى أن الدخول قد ترتفع فيما يتناقص شعور الناس بالرضا؛ أو أن الزيادة فى الدخول لا تترجم إلى زيادة مماثلة فى الشعور بالرضا. هناك الكثير من الأسباب التى قد تؤدى إلى الفجوة بين الدخل والرضا، ومنها ما يحدث عندما تتسمع الفجوة بين مستوى المعيشة والدخل من ناحية، وجودة الحياة من ناحية ثانية؛ وهى الفجوة التى تظهر عندما يزيد الدخل دون أن يقترن بتحسن ظروف الحياة؛ فالدخل وظروف الحياة قد يتطوران فى اتجاهين عكسيين، فيزيد الأول فيما يتراجع الثانى.

شيء من هذا حدث فى مصر خلال العقود الأخيرة. فالمصريون اليوم هم أكثر ثراء مما كانوا عليه قبل خمسة عقود، لكنهم يبدون أقل سعادة وأقل رضا عن حياتهم. هذا بالتأكيد حكم انطباعي، لكنه حكم تؤكده ملاحظة تعليقات الناس فى الجلسات الخاصة، وما يكتبونه على منصات التواصل. الشعبية الكبيرة التى يحظى بها مصطلح الزمن الجميل تؤكد هذا الانطباع، وهو المصطلح الذى يشير إلى وجود فترة ذهبية رائعة فى تاريخنا السابق يتمنى الناس لو يعودون إليها.

القائلون بالزمن الجميل لا يقولون لك متى بدأ هذا الزمن الجميل ومتى انتهي؛ ولكنك تستطيع أن تستنتج من الإشارات والتلميحات والأمثلة المستخدمة أن الحديث يدور عن العقود الستة الأولى من القرن العشرين. لم يعش أغلب الموجودين بيننا الآن فى هذه الفترة، وإن كان كبار السن منا قد لحقوا ببعض الخمسينيات والستينيات. غير أن السينما قد سجلت، بدقة أحيانا وبكثير من المبالغة فى أغلب الأحيان، شكل الحياة فى هذه المرحلة؛ لهذا نجد الكثيرين يشيرون إلى الزمن الجميل باعتباره زمن الأبيض والأسود، أى الزمن الذى تكفلت أشرطة السينما غير الملونة بتخليده، فما أن تلونت السينما فى السبعينيات إلا وانتهى الزمن الجميل.

السبعينيات إذن هى نقطة بداية الزمن غير الجميل، والمفارقة هى أن عقد السبعينيات، خاصة بعد حرب 1973، شهد أسرع معدل لنمو الدخل فى مصر فى القرن العشرين ، وهو ما يؤكد أن الشعور بالرضا لا يتوقف على الدخل وحده، وأن هناك عوامل أخرى يمكنها أن تقوض ما يترتب على تحسن الدخل من شعور بالرضا.

كثيرة هى الصور التى يتم استدعاؤها من الزمن الجميل، ولو تأملنا هذه الصور جيدا لعرفنا الكثير عما يربط الناس بزمن لم يعشه أغلبهم ولا يجدونه فى زماننا هذا، ويعتبرون غيابه سببا فى تعاستهم، أو سببا لعدم شعورهم بالرضا. يتداول الناس صورا لشوارع واسعة نظيفة، ولمبان شكلها جميل، ولعربات الترام وهى تمشى نظيفة دون ازدحام. دعك من أن أغلب الصور المتداولة ملتقطة فى القاهرة الخديوية وهليوبوليس والزمالك، أى فى قلب القاهرة التجارى الأفرنجى وأحياء الطبقة الارستقراطية، فالمهم هو دلالة ذلك على ما يفتقده الناس فى مدننا الراهنة، أى فى افتقاد النظافة والنظام والجمال والهدوء والمساحات الخضراء، وهى الأمور التى يتسبب غيابها فى إحساس الناس بالتعاسة وعدم الرضا، بغض النظر عن مستوى المعيشة والدخل الذى يحققونه.

النظافة والنظام والجمال والهدوء؛ هذه كلها أشياء لا يمكن للأفراد شراؤها بالمال، فمهما يكن دخلك مرتفعا فلن تستطيع تجنب السير فى شوارع المدينة المزدحمة؛ وإهدار الوقت الطويل فى تقاطعات مسدودة طوال ساعات الذروة الطويلة؛ ولن تستطيع منع نفسك من رؤية أكوام القمامة على نواصى الشوارع وفوق الجزيرة الوسطي؛ ومن مشاهدة المبانى القبيحة وقد كلحت ألوانها، وتشوه جمالها المعمارى بسبب فوضى الألوان، والشبابيك والبلكونات المفتوحة والمسدودة بلا نظام، وفتحات التكييف المسدودة بكرتونة قديمة أو طوب أحمر غفل، والمياه المتسربة من أجهزة التكييف ومواسير الصرف، بما تخلفه من بقع سوداء وخضراء على مبان كانت جميلة فى يوم من الأيام.

يصعب على أى فرد مهما يبلغ ثراؤه أن يشعر بالسعادة وهو يرى كل هذا القبح من حوله، ولا يمكنه أن يصف الحياة التى يعيشها بأنها جيدة مهما تكن فخامة الأشياء التى يستطيع شراءها بماله الخاص. أما إذا كنا نتحدث عن واحد من بسطاء الناس الذين يمثلون غالبية المصريين، فالوضع يكون أكثر وطأة فى غياب المال القادر على تخفيف أثر انخفاض جودة الحياة. فصاحبنا المسكين هذا لا يقضى ساعات الزحام الطويلة فى سيارة مكيفة، وإنما محشور فى أوتوبيس أو ميكروباص غير مكيف؛ وهو لا يشاهد القمامة من وراء زجاج سيارته، ولكنه يشمها وتتعثر أقدامه فيها بلا وسطاء أو حواجز؛ أما مشاهد العمارات المشوهة فلا يبقى له من طاقة لملاحظتها.

المواطن البسيط الذى نتحدث عنه لا يصادف جودة الحياة المتراجعة فى وسط المدينة الذى كان جميلا فى زمن الأبيض والأسود، ولكنه مضطر للتعايش مع النقص فى جودة الحياة فى الحى الشعبى أو المستوطنة العشوائية التى يعيش فيها. قد يكون هذا المواطن البسيط حرفيا ماهرا يكسب مالا وفيرا من عمل يديه، وقد يكون أحد المنتفعين بقروض الحكومة منخفضة التكلفة لدعم المشروعات الصغيرة، لكن كل هذا لن يكون كافيا لرفع أكوام المخلفات من على ناصية الشارع الذى يسكن فيه؛ ولن يجعل شارعهم أكثر اتساعا، فتدخل أشعة الشمس إلى البيوت، وتخفف الشعور المقيم بالرطوبة؛ ولن يغلق المقهى المفتوح تحت البيت لينعم الناس بنوم هادئ فى ساعات الليل.

النظافة والنظام والهدوء وانتظام حركة السير فى الشوارع والمساحات الخضراء والمشهد المعمارى الجميل، هذه بعض من مكونات جودة الحياة، وهى أشياء لا يمكن للأفراد شراؤها بأموالهم الخاصة، ومالم تقم الحكومة بتوفيرها فإن أحدا آخر لن يمكنه ذلك، وسيبقى الناس يتطلعون إلى الوراء بحثا عن الزمن الجميل، رغم كل الزيادة فى الدخل التى يحققونها.


لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: