مصر بلد بنته البيروقراطية، وهو أيضا البلد الذى حكمت عليه البيروقراطية بالتأخر والركود. هذه هى إحدى مفارقات تاريخ مصر وأحد ألغاز تأخرها. مصر هبة البيروقراطية؛ هذه حقيقة تاريخية فى بلد عرف أقدم حكومة مركزية فى تاريخ البشرية؛ فالبلد الذى يعيش معتمدا على النهر لا يمكنه البقاء بغير موظفين وحكومة مركزية تسيطر على مياه النهر وقت الفيضان، وتوزعها بالعدل وقت الجفاف. لم ينحت المصريون التماثيل لأصحاب المهن المختلفة، ولكنهم نحتوا تمثالا للموظف المصرى اعترافا بفضله. التمثال الشهير المعروف بتمثال الكاتب المصرى لا يمثل أحد المبدعين من عينة نجيب محفوظ وتولستوى وسوفوكليس، فحضارة مصر القديمة لم تعرف كتابا من هذا النوع. ليس للكاتب الذى يجسده التمثال اسما، فالتمثال لا يمثل شخصا بعينه، إنما يمثل طبقة كاملة من البشر، هى طبقة موظفى الدولة، الذين تولوا حصر وتسجيل النفوس والأراضى والمحاصيل والضرائب وأيام العمل.
تقلبت الأيام على مصر، وحكمها الأجانب طوال ألفى عام، ودخلت البلاد فى زمن انحطاط طويل، حتى شرع محمد على باشا فى بناء مصر الحديثة فى مطلع القرن التاسع عشر. قام مشروع محمد على على إعادة بناء جناحى الدولة: العسكرى ممثلا فى الجيش، والمدنى ممثلا فى الجهاز الإدارى البيروقراطي؛ وحول هذين العنصرين قامت نهضة مصر الحديثة، وقادت البيروقراطية عملية تحويل المجتمع من التأخر إلى التقدم. فأين المشكلة؟
أدخل محمد على التعليم الحديث لإمداد أجهزة الدولة باحتياجاتها من الضباط والفنيين والموظفين. لم ينشأ التعليم الحديث فى مصر بسبب حب المصريين للحكمة أو تلبية لفضولهم المعرفي؛ ولم ينشأ لتلبية احتياجات المصالح الاقتصادية الخاصة والمجتمع. لقد نشأ التعليم الحديث لسد حاجات الجهاز الإداري، ونمت بين التعليم والجهاز الإدارى البيروقراطى علاقة اعتماد متبادل: التعليم يدرب الطلاب على ما تحتاجه البيروقراطية؛ والأخيرة توفر الوظائف للخريجين. كان لعلاقة الاعتماد المتبادل هذه مردود رائع على المجتمع فى مراحل نهوضه الأولى، لكن مع تقدم المجتمع، وما صاحب ذلك من تعقد وتركيب الاحتياجات، لم تعد البيروقراطية قادرة على مواصلة قيادة عملية تنمية وتغيير المجتمع، ولم يعد ربط التعليم باحتياجات الجهاز الإدارى يؤدى سوى إلى تدهور التعليم. ومع هذا واصلت البيروقراطية احتلال موقع قيادى لفترة أطول مما ينبغي، ولم يتم حل الرابطة بينها وبين التعليم فى الوقت المناسب، فكانت النتيجة الدخول فى مرحلة تأخر وركود طويل أهدرت الإنجازات الرائعة لمرحلة البدايات فى مطلع القرن التاسع عشر. أظن أن الدور القيادى للجهاز البيروقراطي، ومعه علاقة الاعتماد المتبادل الإيجابى بين البيروقراطية والتعليم، انتهوا بنهاية عصر الخديو إسماعيل؛ وأن استمرار هذه العلاقة إلى ما وراء ذلك أدى إلى إهدار وعود التغيير والتنمية فى مصر.
لقد واصل التعليم الحديث توسعه وإنتاج المزيد من المتعلمين طوال القرن التالي، وكان من الممكن لهذا أن يؤدى إلى نقل البلاد نقلة نوعية جديدة مثلما فعل التعليم فى بلاد أخرى، لكن هذا لم يحدث، لأن الحال انتهى بالمتعلمين الجدد موظفين فى جهاز إدارى كف عن القيام بدور تقدمى قام به فى مرحلة سابقة؛ فجرى إهدار طاقات عدة أجيال من المتعلمين المصريين الذين تم حشرهم فى مكاتب الحكومة بلا عمل حقيقي، فتحولوا من رصيد للتغيير والتنمية إلى عبء عليها.
هذا التشخيص لأزمة النهضة المصرية ليس جديدا، فقد سبق إليه قبل أكثر من مائة عام واحد من آلاف النبهاء الذين يظهرون فى هذا البلد كل يوم، لكنهم يذهبون طى النسيان دون أن يستفيد منهم الوطن بسبب عقم البيروقراطية وتعثر النهضة. ففى 1902 نشر الأستاذ محمد عمر كتابا سماه «حاضر المصريين أو سر تأخرهم»، ناقش فيه قضايا من تلك التى مازلنا نناقشها إلى اليوم. كان الكتاب جريئا وذكيا، وكتب مقدمته الأستاذ أحمد فتحى زغلول، شقيق الزعيم سعد زغلول، وأحد أكبر مثقفى هذه الحقبة. رأى محمد عمر أن الوظيفة الحكومية تشجع على اليأس والخمول، وتعطل ملكات الإبداع والتفكير التى اعتبرها ضرورية لنهضة الأمة، فكتب يقول إن: الاستخدام فى الحكومة داء سرى مكروبه فى جميع الشبان حبا بالمظاهرات الفارغة، وأغلبهم غير ناظرين إلى نتائجه التى هى على الغالب غير مفيدة للوطن فائدة تذكر لأنها مدعاة للكسل... وفاتهم أن من أقدم عليه يرهن الحواس الخمس والحرية والموهبة الطبيعية براتب طفيف يمنع عنه الجوع ويوجد فى النفوس اليأس والخمول.
رأى محمد عمر أن تكالب الشبان على الوظيفة الحكومية هو السبب فى فقر مصر وتخلفها الاقتصادي، لأنه يصرف المتعلمين من الشبان عن العمل فى إنتاج الثروة فى الزراعة والصناعة والتجارة، فكتب يقول إنه: من الأسف العظيم أن هذا الأمر هو مرض مصر العام المسبب منه عدم تكوين الثروة فى القطر، المبعد لنمو الثروة، المربى فى النفس الاعتماد على الغير، يلقى الشبان المتعلمون أنفسهم بأيديهم ولا يسعون فى طرق أبواب المعايش الأخرى كالتجارة والزراعة والصناعة فانسلخوا عن كل شيء من موارد الكسب الصحيح والعمل المفيد ولم يبق لهم قوام ذاتى إلى التعلق بأذيال الحكومة وأهداب الوظائف.
الوظيفة الحكومية لا تهدر الطاقات وتسبب الفقر فقط، لكن لها أيضا آثار سلبية على أخلاق الأمة وقيمها. يرى محمد عمر أن التكالب على الوظيفة الحكومية مقعد بالهمم وقاتل لعشق الاعتماد على النفس، وأن المستخدمين كلهم حساد بعضهم لبعض، وأنك تجد الواحد منهم آسف على حالته وتعاسته.. نادبا الزمن ومصائبه التى انكبت عليه، وهى القيم والخصائص التى يبدو أنها انتقلت من موظفى الحكومة لكل المصريين. لقد تمت كتابة هذا التشخيص قبل أكثر من مائة عام، ومع هذا فقد واصلت البيروقراطية التضخم طوال العقود التالية. ورغم أن الحكومات بدأت فى تدارك الموقف منذ سنوات قريبة إلا أن أخلاق الوظيفة الحكومية وقيمها مازالت مسيطرة على المجتمع، ومازال نظامنا التعليمى يخرج حملة شهادات ملائمين للوظيفة الحكومية وركودها، وليس للعمل فى مجالات الإنتاج والخدمات التى نحتاجها؛ ومازالت جهود الإصلاح تواجه بمقاومة شرسة تؤكد أن طريق الإصلاح مازال طويلا.
لمزيد من مقالات د. جمال عبدالجواد رابط دائم: