رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

العظمة والأبهة والاستقلال والزعامة

لكى تنتقل دولة من العالم الثالث إلى مصاف الأمم المتقدمة فإنها تحتاج إلى فترة ممتدة من النمو المرتفع والإصلاح المتواصل والسريع، ولنا فى الصين وكوريا أسوة. نما الاقتصاد الصينى منذ عام 1979 بمعدل نمو قدره 10% سنويا فى المتوسط، فتمكن من إخراج 800 مليون مواطن صينى من الفقر إلى الفائض. فى ظل القيادة العسكرية التى حكمت كوريا الجنوبية منذ مطلع الستينيات وطوال الأعوام الأربعين التالية حقق الاقتصاد الكورى نموا اقتصاديا بمتوسط سنوى قدره 9%، وتضاعف متوسط دخل الفرد أكثر من مائة مرة.

تلكأت مصر فى التخرج من صفوف العالم الثالث إلى صف العالم الأول لأن النهضة المصرية لم تحدث أبدا وفقا لهذا النموذج، وإنما كانت هناك فترات قصيرة من النمو السريع، تعقبها فترات طويلة من الانتكاس أو النمو البطيء، فكنا نستهلك فى سنوات التباطؤ والانتكاس ما حققناه فى سنوات النهوض السريع، لنعود فى الجولة التالية كما لو كنا نبدأ من جديد. حقب النهوض الأربع الكبرى: محمد علي، والخديو إسماعيل، وثورة 1919، وثورة 1952 جاءت متفرقة على مدى مائتى عام، فكانت فترات التباطؤ والركود أطول كثيرا من فترات النهوض.

الأهم من هذا هو أن تنمية مصر اقتصاديا، وتحسين مستوى معيشة المصريين لم تكن الأولوية الأهم لدى قادة كل مرحلة، باستثناء الحقبة الناصرية التى لم تكن النيات الطيبة كافية لتجنيبها المآل المخيب للآمال. سعى محمد على لتحقيق العظمة التى تجلبها الانتصارات العسكرية؛ فيما كان الخديو إسماعيل مأخوذا بالأبهة والفخامة الأوروبية. الاستقلال الوطنى كان هو الشغل الشاغل لقادة وجماهير ثورة 1919. أما ثورة يوليو 1952 فكانت أول فرصة توضع فيها التنمية وتحرير الأغلبية من الفقر على رأس الأولويات؛ لكن الوعود التنموية لثورة يوليو لم تتحقق بسبب اضطراب الأولويات وفقدان التركيز على الهدف.

محمد على باشا هو بالتأكيد مؤسس مصر الحديثة. نظام التعليم الحديث والجيش الوطنى ومشروعات الرى الكبرى وابتعاث الدارسين إلى أوروبا واستجلاب المدربين والمدرسين الأوروبيين للمعاهد والمؤسسات المصرية، هذه بعض من أهم إنجازات محمد على التى غيرت وجه مصر. قويت مصر فى عهد محمد على وأصبحت أكبر من مجرد ولاية عثمانية، فاكتسبت قدرا كبيرا من الاستقلال الذاتى الذى تعمق تدريجيا. لكن محمد على لم يكن مدفوعا بالرغبة فى إنصاف المصريين وتحريرهم من التعسف العثمانى المملوكى. تحسين مستوى معيشة المصريين لم يرد على ذهن محمد على باشا ولم يكن من ضمن المعايير التى قاس بها مدى نجاحه. القوة العسكرية وما تجلبه من عظمة كانت هى الهدف الذى سعى محمد على للوصول إليه، فبنى جيشا قويا، ووظفه، هو وولده إبراهيم، بعبقرية عسكرية نادرة لفتح الحجاز والسودان والشام وصولا إلى قلب الأناضول التركية.

لقد تم وضع أساس الدولة المصرية الحديثة على يد محمد على ليس لأن الباشا الكبير استهدف ذلك، وإنما كنتيجة ثانوية لسعى الباشا المؤسس نحو العظمة. احتاج الباشا لمتعلمين يديرون آلة الحرب الحديثة، فأنشأ المدارس وأرسل المبعوثين. احتاج الباشا للبارود والمهمات اللازمة للجيش فأنشأ المصانع. احتاج لتجنيد المصريين بعد فشل محاولة تجنيد السودانيين، فتأسس الجيش الوطني. احتاج لتوفير الموارد الكافية لتمويل حروبه الكثيرة، فأنشأ جهازا إداريا قادرا على تنمية ثروة البلاد وزيادة حصيلة الضرائب. تحسنت أحوال بعض المصريين ممن عملوا فى أجهزة محمد على العسكرية والإدارية، لكن هذا التحسن لم يكن مقصودا لذاته؛ والأخطر هو أن المغامرات الخارجية استنزفت موارد مصر ووجهتها بعيدا عن تنمية الاقتصاد ورفع مستوى معيشة الناس.

الخديو إسماعيل هو أكثر أبناء محمد على افتتانا بالنموذج الأوروبى. القوة العسكرية والعظمة لم تكن هى الهاجس الذى خلب لب الخديو إسماعيل، وإنما الأبهة والفخامة الملكية التى رآها بنفسه فى الحواضر الأوروبية. ظن محمد على أن امتلاك قوة عسكرية مماثلة لقوة الدول الأوروبية كفيل بالاعتراف بجدارة مصر بالاستقلال؛ فيما ظن الخديو إسماعيل أن وجود أسرة مالكة لتقاليدها ومظهرها طابع أوروبى، تحكم بلدا فيه ملامح العمارة والثقافة والمؤسسات الأوروبية، هو الكفيل بالاعتراف بجدارة مصر بالاستقلال. كان مشروع الخديو إسماعيل باهظ التكلفة، بالضبط كما كان مشروع محمد على، فيما فشل المشروعان فى العبور بعموم المصريين من قيعان الفقر والجهل إلى مصاف الستر ومن بعده الرفاهية. مع هذا فقد ترك المصلحان الكبيران لنا ميراثا نعتز به ونبنى عليه. ترك محمد على لنا ميراثا فى العسكرية والتعليم والجهاز الإدارى؛ وأورثنا الخديو إسماعيل القاهرة الحديثة، أجمل مدن الشرق، والمدينة التى منحت لأهلها - ومن خلالهم لكل مصر - هوية وطابعا مميزا.

ثورة 1919 هى أعظم حدث سياسى فى تاريخ مصر الحديثة. قامت الثورة من أجل الاستقلال التام، فلم ننل سوى استقلال جزئى؛ لكنها أورثتنا الهوية والوحدة الوطنية فى أعلى تجلياتها، بالإضافة إلى تقاليد الحكم الدستورى وحرية الفكر والتعبير. لم تكن التنمية الاقتصادية وإخراج الناس من الفقر ضمن أولويات حقبة ثورة 1919، التى انتهت قبل أن تحل مشكلة الحفاء، ناهيك عن تفشى الجهل والفقر والمرض.

أدرك قادة ثورة يوليو أهمية التنمية، فى بعديها، زيادة الثروة وإعادة توزيعها. تحديد الملكية الزراعية وبناء السد العالى هى خطوات مبكرة أظهرت الانحياز التنموى للنظام الجديد. لكن الأولويات سرعان ما اضطربت تحت إغراء الزعامة العربية، وتزعم حركة مكافحة الاستعمار، والالتحاق بمعسكر الثورة الاشتراكية العالمية. الإخفاق التنموى لثورة يوليو كان واضحا حتى قبل حرب 1967، عندما فشلت الحكومة الثورية فى عام 1965 فى البدء فى تنفيذ الخطة الخمسية الثانية بعد أن أسفرت الخطة الأولى عن عجز فادح فى الموارد والتمويل.

لا مخرج لمصر من دوامة الفقر والحاجة والاعتماد على الخارج سوى بتحقيق معدل تنمية مرتفع لفترة طويلة متصلة بلا انقطاعات أو انشغالات جانبية. الخروج من الفقر هو هدف نبيل بما يكفى، ولا حاجة لنا للبحث عن تعزيزه بأهداف نبيلة أخرى، فهدف نبيل واحد يكفينا ويزيد.


لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: