رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

نهضة مصر.. بدايات مبكرة ووصول متأخر

نفخر نحن المصريين بأن لنا فى النهضة الحديثة تاريخا وعراقة، ونتباهى بأننا عرفنا الجيش الوطنى الحديث والمدرسة والجامعة والكتاب المطبوع وتعليم البنات والمسرح والسينما والسكة الحديد والترام والكهرباء حينما كان جيران لنا يعيشون كما عاش أجدادهم قبل أكثر من ألف عام. لقد تقدمنا على الجيران فى الأخذ بالحداثة، وهذا مصدر فخر كبير لنا، لكننا نشعر بالإحباط وتتزعزع ثقتنا فى أنفسنا حينما نرى أن بعضا ممن أتوا بعدنا قد سبقونا؛ وأن سبقنا فى البدايات لم يضمن لنا استمرار السبق حتى النهايات. هذا هو دأب الأمة المصرية وداؤها طوال القرنين الماضيين: نبدأ مبكرين، لكننا نصل متأخرين، أو قد لا نصل أبدا. هذا هو لغز تأخر الأمة المصرية، ومن يحله ربما استطاع حل معضلة النهضة غير الناجزة فى بلادنا.

حضارة العالم المعاصر مفتوحة لإسهامات كل الشعوب، لكن مجتمعات الغرب الأوروبى هى صاحبة السبق والأفضلية فى وضع أسسها، وفى رسم ملامح النموذج الذى تحاول شعوب العالم الأخرى محاكاته كليا أو جزئيا. سيطرت دول الاستعمار الأوروبى على العالم، وأخضعت شعوبه وحضاراته، وأبهرتها بما امتلكته من رفاهة وقوة، فرغب الكثيرون فى البلاد المقهورة فى تقليد الغرب، واستنبات حضارته - أو بعض منها - فى بلادهم.

أعجب هؤلاء بالغرب كما رأوه فى ذروة عصر الاستعمار فى القرن التاسع عشر، فكانت هذه هى الصورة التى حاولوا إعادة خلق بلادهم على شاكلتها. الجيش الحديث، والصناعة، ومؤسسات التعليم، والعلم، والتطبيقات التكنولوجية، والبيروقراطية المنضبطة، والدولة المركزية؛ هذه هى عناصر الصورة التى خطفت أبصار المصلحين والقادة من أبناء الحضارات الشرقية، فحاولوا استنساخها فى بلادهم.

لم يلحظ هؤلاء أن وراء المشهد الخلاب الذى شاهدوه فى أوروبا القرن التاسع عشر عدة قرون من التقدم التدريجى البطيء، فأوروبا القرن التاسع عشر لم تولد هكذا مكتملة، إنما قطعت رحلة طويلة من التحولات الجذرية: فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر كان عصر النهضة الأوروبي؛ وفى القرنين السادس عشر والسابع عشر كانت الكشوف الجغرافية والإصلاح الديني؛ وفى السابع عشر والثامن عشر كانت الدولة المركزية والجيوش الحديثة ونظم الحكم الملكى المطلق؛ وفى القرن التاسع عشر كانت الثورة الصناعية والأيديولوجيات الكبرى القومية والاشتراكية والحكومات الديمقراطية.

لم يكن الأوروبيون يقلدون أحدا، ولا كانوا يتبعون خطة محددة، أو يسعون لتطبيق نموذج سابق التجهيز؛ فهم كانوا فقط يعيشون حياتهم بالطريقة التى يختارونها، ويقابلون التحديات التى تفرض نفسها عليهم واحدا بعد الآخر؛ يخوضون تجربتهم الخاصة بتلقائية، ويبدعون من الحلول والأفكار الطازجة ما يرونه ملائما.

ساهمت عوامل كثيرة فى صعود الحضارة الغربية وتقدمها عبر هذا المسار، لكن أغلب هذه العوامل ولد وكبر داخل مجتمعات الغرب نفسها، فهى عوامل داخلية أصيلة، غير منقولة أو مستوردة. الحضارة الغربية الحديثة ولدت وتطورت تدريجيا، وأخذت ما تحتاجه من وقت لتثبيت عوامل قيام الحضارة وتقدمها، ولغرس جذورها عميقة فى تربة المجتمعات الغربية. نظام السوق الرأسمالي، والطبقات الاجتماعية الحديثة، ومعاهد التعليم، والتقاليد والقيم الثقافية، والمؤسسات السياسية؛ هذه هى الروافع التى حملت الحضارة الغربية الحديثة. ولأن هذه الروافع أصيلة وراسخة الجذور فى مجتمعات الغرب، فقد كانت قادرة على النهوض بالمجتمعات الأوروبية من جديد، ومواصلة مسيرة التقدم بعد كل أزمة أو انتكاسة؛ فالمجتمع الممتلك لشفرة التقدم وأسراره تكون لديه القدرة على إعادة تطبيقها من جديد فى كل مرة يجد نفسه فيها مطالبا بذلك، دون الحاجة لسلطة قاهرة تجبره على ذلك، فقليل من التخطيط والتنظيم والتنسيق فيهم الكفاية.

بقدر أصالة التكوينات والمؤسسات والقيم التى لعبت دور الحوامل والروافع للحضارة الغربية، وبقدر انغراسها عميقة فى المجتمعات الغربية، بقدر ما كان تقدم الحضارة الغربية مسارا حتميا، يعيد تجديد وتأكيد نفسه بعد كل أزمة تواجهه. حتمية التقدم الحضارى المتواصل هذه هى أهم ما ميز الخبرة الغربية، أما فى غير ذلك من المجتمعات، ومن بينها مصر، فإن التقدم لم يكن أبدا مسألة حتمية، لكنه كان مسألة استساغة واختيارا طوعيا من جانب قادة عظام حملوا على عاتقهم مسئولية النهوض ببلادهم. إنها طائفة البنائين العظام التى ضمت محمد على باشا فى مصر، والسلطان محمود الثانى ومصطفى كمال فى تركيا، وماو تسى تونج فى الصين، ولى كوانج يو فى سنغافورة، ومهاتير محمد فى ماليزيا. لا أحد يمثل طائفة البنائين العظام هذه أكثر من الحاكم الذى قاد عملية الإصلاح والنهضة فى اليابان، الامبراطور ميجي، وتعنى باليابانية الحكم المستنير، وهو اللقب الذى اختاره لنفسه الامبراطور موتسوهيتو، الذى نقل اليابان إلى مصاف القوى الاقتصادية والعسكرية العظمى فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر.

القيادة والتحويل الاجتماعى هما كلمتا السر فى عملية نهوض البلاد غير الأوروبية، فعندما توافرت القيادة بدأت مسيرة النهضة والتقدم؛ وعندما نجحت القيادة فى تحويل المجتمع، ظهرت فى البلاد قوى اجتماعية ومؤسسات وقيم وثقافة قادرة على مواصلة التقدم بلا انقطاع، وقادرة على النهوض من جديد بعد كل أزمة أو انتكاسة.

لقد حدث هذا بالتأكيد فى اليابان، لكنه لم يحدث فى مصر. لقد نجحت اليابان فى توطين عوامل التقدم والنهضة فى مجتمعها، فيما ظلت هذه العوامل خارجية وغريبة عن بنية المجتمع والثقافة المصرية. وبينما كان لمحمد على باشا تجربة نهضوية رائعة، فإن هذه التجربة توقفت قبل استكمال عملية تحويل المجتمع ليصبح قادرا على الإنتاج المتواصل والتلقائى لحوامل النهضة وروافعها. لقد أخفق حكام مصر بعد محمد على فى استكمال مهمة تحويل المجتمع، فبقيت قضية التقدم والنهضة المصرية واقفة على أرض رخوة، وبقينا متأخرين، رغم أن نهضتنا بدأت قبل كل الآخرين.


لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: 
كلمات البحث: