رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

سر تأخر المصريين

يلح هذا السؤال على أصحاب الضمائر اليقظة والعقول النابهة ويؤرقهم، وسيظل السؤال مطروحا، لماذا بقينا غير راضين عن أحوالنا، ولماذا بقي بلدنا يصنف بين الأمم في مكانة متأخرة، فيأتي ترتيبه تاليا لأمم ليس لها ما لنا من ميراث حضاري كنا حتى وقت قريب نسبقها في كل مجالات المنافسة بين الأمم؟! بدأ نبهاء المصريين في التساؤل عن سر تأخرنا منذ اللحظة التي اكتشفوا فيها أن أمما أخرى سبقتنا بفراسخ، فأصبحت أكثر قوة وأكثر ثراء، وباتت قادرة على تهديدنا.

السؤال عن سر تأخرنا مبثوث في ثنايا التسجيل الدقيق الذي كتبه عبد الرحمن الجبرتي لوقائع الحملة الفرنسية على مصر. السهولة التي انهزم بها المماليك أمام جيش نابليون بونابرت صدمت الجبرتي، فكتب كيف أن: الأجناد متنافرة قلوبهم منحلة عزائمهم، مختلفة آراؤهم، حريصون على حياتهم وتنعمهم ورفاهيتهم، مختالون في ريشهم، مغترون بجمعهم، محتقرون شأن عدوهم، مرتبكون في رويتهم، مغمورون في غفلتهم، وهذا كله من أسباب ما وقع من خذلانهم وهزيمتهم.

لكن مجتمع المصريين لم يكن بالمرة أفضل حالا من حكامه المماليك، بل إنه كان مجتمعا مهزوما حتى قبل أن يهزمه الفرنسيون. فقبل أن تقع المواجهة الكبرى التي انهزم فيها جيش المماليك عند امبابة، كانت أنباء قدوم الفرنسيين قد أرعبت المصريين وقوضت مجتمعهم. يصف الجبرتي الوضع ما قبل الواقعة الكبرى بعبارات مخيفة، فيكتب: انقطعت الطرق وتعدى الناس بعضهم على بعض، لعدم التفات الحكام واشتغالهم بما دهمهم، وأما بلاد الأرياف فإنها قامت على ساق يقتل بعضهم بعضا وينهب بعضهم بعضا، وكذلك العرب غارت على الأطراف والنواحي، وصار قطر مصر من أوله إلى آخره في قتل ونهب وإخافة طريق وقيام شر وإغارة على الأموال وإفساد المزارع وغير ذلك من أنواع الفساد الذي لا يحصى. لا توحي الصورة التي رسمها الجبرتي بوجود نسيج مجتمع متماسك، يتمتع بقدر من التنظيم والقدرة على الإدارة الذاتية، له قيادات محلية فعالة، وقادر على مواصلة الحياة الطبيعية في ظروف انشغال السلطة أو غيابها.

على العكس، الصورة التي يرسمها الجبرتي ترسم لنا مجتمعا مفككا، يعيش على حافة الفوضى، التي لولا سلطة المماليك، بكل استبدادها، لأكلت الصراعات الأخضر واليابس في البلاد. بدأت المعركة بين جيش الفرنسيين والمماليك عند امبابة غربي النيل، ووصل ضجيجها للناس المتجمعين على البر الشرقي في بولاق، فكان مشهدا صاخبا وصفه الجبرتي بقوله: ضج العامة والغوغاء من الرعية وأخلاط الناس بالصياح, ورفع الأصوات بقولهم: يا رب ويا لطيف ويا رجال الله, ونحو ذلك، وكأنهم يقاتلون ويحاربون بصياحهم وجلبتهم، فكان العقلاء من الناس يصرخون عليهم ويأمرونهم بترك ذلك، ويقولون لهم: إن الرسول والصحابة والمجاهدين، إنما كانوا يقاتلون بالسيف والحراب وضرب الرقاب لا برفع الأصوات والصراخ والنباح، فلا يستمعون ولا يرجعون عما هم فيه.

لقد أظهرت الحملة الفرنسية ما كان عليه الناس من جهل وفوضى ويأس وصدمة وفزع. كان هذا هو نوع الوعي والثقافة والجاهزية النفسية للمجتمع المفكك الذي كانت عليه مصر في نهاية القرن الثامن عشر، بعد ثلاثة قرون من الحكم العثماني المملوكي. العامة والغوغاء والرعية وأخلاط الناس، هذه هي المصطلحات التي استخدمها الجبرتي لوصف عوام الناس؛ والتحدي الذي يواجهنا منذ اكتشفنا تأخرنا هو تحدي تحويل هذا الخليط إلى مجتمع ذي نسيج متماسك، لديه قدر كاف من العلم والمعرفة، تجمعه ثقافة وقيم مشتركة، منظم في مؤسسات أهلية ومدنية، يتمتع بقدر مناسب من الكفاءة لتنظيم وإدارة الضروري والممكن من أموره ذاتيا، تحكم العلاقات بين أفراده مبادئ وقواعد متعارف عليها، يتم إنفاذها بأكبر قدر من الطوعية، وأقل قدر من الإكراه.

إنها عملية تحويل الغوغائية التي وصفها الجبرتي في عام 1798 إلى شعب وأمة ومواطنين. ما تحقق من إعادة بناء مصر خلال القرنين الماضيين هو في جوهره عملية تحويل جمهرة المصريين الذين تحدث عنهم الجبرتي إلى أمة حديثة. ولأن عملية التحويل الكبرى هذه لم تقترب من الاكتمال بعد، فإن قضية التقدم والنهضة المصرية مازالت تقف على أرض رخوة. لقد قطعت مصر شوطا في اتجاه تحويل المجتمع، لكن مقدار ما تم تحقيقه في مائتي عام أقل مما كان يمكننا تحقيقه، وهو بالتأكيد أقل مما يلزم لتحقيق نهضة مستدامة محصنة ضد الانتكاس.

لقد شهدت مصر خلال المائتي عام الأخيرة عددا من مراحل الازدهار والتقدم الكبير، التي أعقب كل منها فترة انتكاس طويلة، فبدا تقدم مصر كما لو كان يأخذ شكل قفزات الضفدع: قفزات كبيرة متباعدة؛ وليس على شكل مشي السلحفاة: بطىء لكن متواصل. محمد علي والخديو إسماعيل وثورة 1919 وثورة 1952؛ هذه هي الحلقات والقفزات الأربع لتقدم مصر خلال القرنين الأخيرين؛ أما ما بين هذه القفزات الأربع الكبرى ففترات انتكاس طويل، يعجز المجتمع خلاله عن إفراز القوى الاجتماعية والسياسية القادرة على حمل عبء التقدم.

هذا هو الفارق بين مجتمع يملك بعض مقومات التقدم فيما يفتقد كثيرا منها، ومجتمع آخر ترسخت فيه مقومات التقدم. فهزيمة اليابان وألمانيا في الحرب العالمية الثانية كانت شاملة وثقيلة، لكن المجتمع في البلدين لم يستغرق سوى سنوات قليلة للتعافي والعودة لمسار النهوض والتقدم، الأمر الذي لم يكن ليحدث لولا أن المجتمع في البلدين حديث وحيوي بما يكفي لمواصلة عملية إفراز قوى التقدم بلا توقف؛ على عكس مجتمعنا الذي لا يقوم بإفراز قوى التقدم بشكل تلقائي منتظم، وإنما يحتاج إلى تضافر عدد كبير من الشروط التي تفتح للتقدم نافذة، سرعان ما تنغلق بسبب المقاومة الضارية من جانب القوى المعادية للتقدم، فندخل في انتكاسة طويلة، في انتظار أن تنفتح للنهضة نافذة جديدة؛ وسيظل الحال هكذا حتى يتحول التقدم إلى عادة وطبيعة مجتمعية وليس إلى صدفة تاريخية.


لمزيد من مقالات ◀ د. جمال عبدالجواد

رابط دائم: