لاشك أن حادث مقتل الكاتب السعودى جمال خاشقجي، هو جريمة بشعة، ترفضها وتعاقب عليها كل القوانين الكونية، لكنه سرعان ما تحول من جريمة الى فرصة ثمينة لأعداء المملكة للتقريع لها، عبر وسائل الإعلام المختلفة، ولمحاولة ابتزازها. وتحول أيضا الى غنيمة تتهافت عليها قوى إقليمية ودولية، وكل يبحث فقط عما يمكن أن يحققه من ورائها من مكاسب مادية أو سياسية أو تصفية حسابات سابقة. أكدت تركيا، منذ أول يوم، أنها لن تتردد فى كشف الحقيقة الكاملة حول اختفاء/ مقتل خاشقجي، وأنها ستأخذ القضية إلى أقصى مدى يمكن أن تصل إليه، وهذا ما عبرت عنه التسريبات المتلاحقة لمصادرها الاستخباراتية فى وسائل الإعلام الدولية. وتركيا، بهذا الموقف، تحاول أن تصدر للعالم رسالة محددة، وهى أنها لن تقبل بإبرام أى صفقة مقابل هيبة تركيا وأمنها الداخلى والقومي، بغض النظر عن تأثيراتها على العلاقات التركية/السعودية. لكن الوجه الخفى فى السياسة هو عكس المعلن، فتركيا بلا شك تستغل هذا الحادث لتغتنم ما أتيح لها من فرصة ذهبية للتغطية على سجلها السيىء فى مجال حقوق الإنسان، والذى كان مثار انتقادات واسعة أوروبيا وأمريكيا. ومن ناحية أخرى، الضغط على السعودية أمام الرأى العام العالمي، ليس فقط من أجل الاعتراف بارتكاب جريمة الاغتيال وتحمل مسئوليتها، وهذا ما نجحت فى تحقيقه فعلا، ولكن، ربما، الهدف أيضا هو الحصول على تنازلات فى ملفات أخرى تهم علاقات البلدين، وعدد من القضايا والأزمات التى تتفاعل فى المنطقة، بما فى ذلك كسب نقاط فى معركة أنقرة مع الرياض فى الأزمة القطرية وفى مسألة قيادة العالم الإسلامى السني. وهذا ما دفع تركيا الى التعامل بمبدأ القطّارة فى نشر وتسريب أخبار متضاربة عن الحادث، وهى بذلك تتدارس، فى ذات الوقت، مصالحها مع السعودية أو ما ستناله منها من مكاسب.
أما فى أمريكا، فتحول مقتل خاشقجى إلى موضوع جدل سياسى داخل الكونجرس الامريكى الذى يتجه نحو تحميل السعودية، مسئولية الجريمة فى إطار المزايدات الحزبية على خلفية الانتخابات التشريعية الوشيكة. أما الرئيس الامريكى ذو العقلية الاقتصادية، فمن الواضح أنه يريد أن يغتنم من هذا المأزق السعودى ليفوز بصفقة ما، وهذا ما جعل تصريحاته تتذبذب مرة بين التهديد والوعيد، ومرة أخرى، بين التصديق والدعم. فبعد إعلان السعودية خبر مقتل خاشقجي، قال ترامب إنه يقبل الرواية السعودية الرسمية ويراها منطقية، بل إنه سيتحدث مع ولى العهد السعودى فى هذا الشأن، وسيحثه على استكمال التحقيقات. وقبل ذلك بيوم واحد، صرح الرئيس الأمريكى بشكل صريح بأن الولايات المتحدة قد تدرس فرض عقوبات رادعة وعواقب عنيفة على السعودية إن ثبت تورطها فى عملية القتل. وهو نفسه الذى قال إنه لا يريد خسارة السعودية!. والتباين فى هذه المواقف يظهر أن الرئيس ترامب؛ الذى يوجد فعليا تحت ضغط متزايد للاختيار بين: إما الدفاع عن موقف المملكة، حفاظًا على ما يعتبره مصالح استراتيجية واقتصادية لأمريكا لا يمكن الاستغناء عنها، أو رفع الدعم عن السعودية وربما فرض عقوبات عليها؛ سوف يصطف، بالنهاية، الى جانب المملكة، لاعتبارات إقليمية ودولية ومصالح مشتركة، لكنه، فى ذات الوقت، لن يترك هذه الفرصة الذهبية تمر دون أن يستغل الحادث لابتزاز السعودية.
أوروبا دخلت أيضا على خط الضاغطين على السعودية، بعدما طالبت فرنسا وبريطانيا بإجابات مفصلة وفورية عن الحادث، فيما أكدت المستشارة الألمانية على الحاجة الملحة لمعرفة ما حدث، وانه لا سلاح ألمانيا للرياض مادامت القضية مبهمة. وعلى الصعيد الاقتصادي، فأداة الضغط الاوروبية الغربية اتجهت صوب مؤتمر مبادرة مستقبل الاستثمار، وهو حدث كبير تستضيفه الرياض فى إطار طموحات المملكة لجذب رأس المال الأجنبى وتنويع موارد اقتصادها بدلا من الاعتماد على النفط، قبل أن تتسارع وتيرة انسحاب الحكومات والشركات العالمية من المشاركة فيه، او على الأقل حصر المشاركة على مسئولين تنفيذيين على مستوى منخفض. أما كندا، التى دخلت فى أزمة دبلوماسية مع السعودية بعد تغريدة للسفارة الكندية، نهاية أغسطس الماضي، التى طلبت فيها الإفراج الفورى عن ناشطين فى مجال الدفاع عن حقوق الإنسان معتقلين فى المملكة، وردت الرياض بطرد السفير الكندى واتخذت سلسلة تدابير ضد كندا بينها تعليق العلاقات التجارية، فقد استغلت الحادث لتصفية حساباتها، حيث أصدرت وزارة خارجيتها بيانا بعد إعلان الرياض مقتل خاشقجى جاء فيه: «إن التفسيرات المقدمة حتى الآن تفتقر إلى الاتساق والمصداقية». أمام كل هذه المحاولات لتسييس القضية، والنية المبيتة للضغط على السعودية، لم يتبق أمام الأخيرة سوى مواجهة هذه الأزمة بحكمة لقطع الطريق أمام كل المتربصين بها والراغبين فى التدخل فى شئونها الداخلية، من خلال الالتزام بالشفافية فى متابعة مسار التحقيقات، وتقديم الجناة الى العدالة. والأهم مراجعة سياساتها وتطويرها فى الاتجاه الذى يحقق المصالح الوطنية العليا للمملكة ويقيها خطر مختلف المتربصين بها والساعين لابتزازها. حفظ الله بلادنا العربية من كل سوء.
لمزيد من مقالات وفاء صندى رابط دائم: