رئيس مجلس الادارة

عبدالمحسن سلامة

رئيس التحرير

علاء ثابت

رئيس التحرير

علاء ثابت

الإصلاح الثقافى وبناء الإنسان

أشرت فى مقالى السابق لبعض نواقص الذات الثقافية العربية وتشوهاتها التى أدت عبر التراكمات، مع إرهاصات الماضى وتقلبات الحاضر، الى ما نشهده اليوم من ظواهر اجتماعية مقلقة، وحالة تدين مزدوج، وصراع وعداوة وانقسامات واقتتال صنعناه بأيدينا ووحدنا ندفع ثمن تبعاته.

ومن أجل تجاوز هذا الواقع المتأزم لم يبق هناك خيار سوى التخلص من كل الموروثات المشوهة، والرهان على بناء انسان واع/مسئول، وصناعة شعوب متوازنة قادرة على فهم التغيير واستيعاب شروطه وظروفه وقبول الآخر، واتساع الصدور للنقد، وتعميق النقد الذاتي، وتوسيع الهامش الموضوعى فى التفكير والجدل وقبول التعددية.

وصناعة هذا الانسان تستلزم إصلاحا ثقافيا شاملا يستكمل كل التحولات التى طرأت على المجتمع العربى منذ بداية النهضة، مع الوضع فى الاعتبار أن اى تغيير لابد أن ينبثق من قلب حركة المجتمع وأبنائه، وتنبثق من احتياجاتهم الآنية ورؤيتهم للتغيير من خلال مراجعة الذات ونقدها، وإعادة النظر فى مفاهيمها وطموحاتها، فى ضوء التحديات التى تواجهها، لضرورة إشباع حاجاتها ،والتكيف مع الواقع ومع الآخر.

إن الإصلاح الثقافى كقضية مجتمعية يتداخل فيها الاقتصادى مع السياسى مع التربوى والتشريعى والديني؛ لم يعد يحتمل أى تأجيل، بل بات أولوية يجب الاشتغال عليها من أجل إنجاح مشروعات الاصلاح كافة التى تحتاجها اوطاننا اليوم.

ومن أول مداخل هذا الإصلاح ضرورة إصلاح منظومة التفكير والسلوك من منطلق دينى منفتح ومستنير، على اعتبار الدين القوة الروحية القادرة على إعادة بناء شخصية الإنسان، وإحداث أكبر قدر من التغيير فى سلوكه الثقافي.

هناك ايضا ضرورة تجديد الخطاب الديني، الذى طالما تحدثنا عنه فى السنوات الاخيرة، حتى يسترجع هذا الخطاب طابعه الحضارى التنويري، ويكون متناغما مع روح العلم وحكم العقل ومستجيبا لمتطلبات هذا العصر دون إقصاء ولا صدام.

أما فى مسألة القيم والأخلاق، فلم يعد من المجدى ان تبقى هذه المسئولية على عاتق الواعظ الدينى الذى يحكمه خطاب الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، بل يجب ان تتسع دائرة المسئولين لتشمل الفاعلين المدنيين والاجتماعيين والساسة والحركات النسائية، وأهل الثقافة والفن والاعلام الذين ينبغى أن يتفاعلوا فيما بينهم جميعا من أجل إطلاق ديناميات واعية للارتقاء بمنظومة القيم والأخلاق وجعلها سلاحا فى وجه كل الظواهر التى يمكن ان تصيب المجتمع.

فى مجال التعليم، من الضرورى تطوير المناهج التعليمية؛ تطويرا فى الاتجاه الصحيح وليس فقط الادعاء زورا الذى ربما يعود بالمنظومة التعليمية الى الخلف بدل التقدم بها؛ من خلال تنمية روح الابتكار والإبداع، وتأسيس عقلية علمية قادرة على النقد واختراع الحلول الجديدة للمشكلات القائمة، مع الاهتمام بعنصر التربية والتكوين والتدريب.

وتبقى المعضلة الحقيقية هى ظاهرة أمية المتعلمين التى تحول التعليم والثقافة من عملية معرفية تصنع اجيالا فاعلة وصانعة للتغيير، الى معرفية مكسبية سطحية تنتهى صلاحيتها بانتهاء الموسم الدراسي.

وداخل منظومة التربية والتعليم أيضا، هناك ضرورة إشاعة ثقافة الديمقراطية فى المناهج، وقبول الآخر ومواجهة الاختلاف بالحوار والمنطق وليس بالتهميش والإقصاء.

وباعتبار الاعلام آلية خطيرة فى نقل القيم الثقافية وإنتاجها وإعادة إنتاجها وتقديم نماذجها للنشء وللمواطنين، فلابد من اعادة انتاج جسم اعلامى جاد وواع بمخاطر دوره فى تشكيل الوعى المجتمعي، ومنخرط فى القيم الثقافية المحددة سلفا.

وتسخير هذا الاعلام بشكل اساسي، للرفع من مستوى الذوق العام، من خلال وضع الإنتاج الثقافى الراقى فى متناول الطبقات البسيطة، وإتاحة الفرصة لها لتذوق الموسيقى والدراما الممتعة والحوارات الهادئة والهادفة التى تسهم فعليا فى تشكيل الوعى المجتمعى وليس التأثير عليه فى الاتجاه السلبي. ولابد من التشجيع على ممارسة الفنون الجميلة والاستمتاع بالفن فى مظاهر الحياة المختلفة، يعنى جعل المنتج الفنى والثقافى فى متناول جميع أطياف المجتمع، مما يعزز ثقة المواطن فى ذاته ويضاعف من قدرته على المشاركة الفاعلة داخل المجتمع ويسفر فى نهاية الأمر عن شيوع منظومة جديدة من القيم التى تقرب بين ممثلى الفئات المختلفة بغض النظر عن مستواهم الاقتصادى او الاجتماعي.

أما فى المجال السياسي، فمن خلال كل التجارب السابقة، لابد من ربط الإصلاح السياسى بالإصلاح الثقافى على أساس تبادل التأثير. وتلازم الإصلاحين يستجيب لحاجيات الانسان العربى الذى يحتاج اليوم الى تنظيم المجال السياسى تنظيما عقلانيا يضمن العيش الكريم، مع توفير مجال ثقافى يبدع من خلاله بالتحليل والنقد واعادة صياغة الإشكاليات وفق إفرازات الواقع وتراكمات التاريخ.

هذه فقط بعض المداخل التى يمكن طرقها لإصلاح الخطاب الثقافى باعتباره أهم مداخل إصلاح المجتمع. وهذا الاصلاح لا يمكن أن يكون جزئيا أو ترقيعيا، وإنما اصلاح كلى وشامل، يعيد النظر فى القائم والموروث، ويتيح تملك المستقبل وفهم قواعد لعبته، ويتفاعل مع الدينامية المتحكمة فى تدبير صراعات العالم، ويجابه الأطروحات الفكرية والإيديولوجية التى يتوقف عليها مصير الإنسانية.


لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى

رابط دائم: