شباب مصاب بلوثة التطرف والعنف، وآخر مصاب بلوثة الإدمان والانحراف، وشباب آخر يصارع الإحباط واليأس، وآخر كفر بكل شيء واعتنق مذهبه الخاص، وبين هذا وذاك قلة لا يزالون يبحثون عن ذواتهم في صمت، ويحاولون شق طريقهم مهما تواجههم من اخفاقات. تقلبات خطيرة تمر منها مجتمعاتنا على حين غفلة من المحللين وعلماء الاجتماع وصناع القرار.
فالأخبار، يوميا، مليئة فقط بحوادث القتل والعنف والانتحار، وجرائم الاختطاف والاغتصاب والاعتداء، فلم يعد هناك رادع لا أخلاقي ولا ثقافي ولا قانوني، وكأن المجتمع في حالة تمرد جماعي. تمرد انطلقت شرارته منذ سنوات ولاتزال مشتعلة، تطفو على السطح من فترة لأخرى، وهي تنتظر فقط ساعة الصفر كي تنتشر لتحرق الأخضر واليابس.
والسؤال: ما الذي اوصلنا الى هذا الحد من الانحدار الذي يقارب القعر، إن لم يكن قد وصل إليه فعلا؟ وكيف الخلاص من هذا الواقع المأزوم الذي لا يريد سواده أن ينجلي؟.
ليس تشاؤما، ولكنه توصيف للواقع كما هو، دون مساحيق تجميل ولا تجاهل للمتغيرات التي باتت تفرض نفسها بقوة بين شبابنا الذي وصل الى حالة من الاغتراب وعدم الرضا واليأس لدرجة انه خلق لنفسه عالما خاصا به، مبتدعا لغته الخاصة، وثقافته الموغلة في الغربة، الغربة عن المجتمع والغربة عن المبادئ والقيم والغربة عن كل ما هو سائد، وهو بذلك لا يبحث فقط عن علامة تميزه، بقدر ما يريد ان يصنع حاجزا سميكا بينه وبين المجتمع القائم، الذي يرفض الاندماج داخله، ولا يريد ان يعترف بأي سلطة له عليه.
وهذا النوع من التمرد او العصيان ما هو الا نتيجة طبيعية لمسار تاريخي من الخيبات والاخفاقات. فمع الهزائم التي عاشها العالم العربي منذ القرن الماضي، ومع زيادة التباعد بيننا وبين مركز الحضارة الكونية المتحكمة في مصير العالم، ومع انهيار جميع إيديولوجيات السياسية التي خذلت كل الحالمين بالتغيير، ومع انتكاسة ما أطلقوا عليه زورا «الربيع العربي»، صار واقعنا أكثر تعقيدا، واحباطاتنا أكثر مرارة، حيث بات تشخيص هذا الواقع ومعالجته ضرورة لا تقبل التأجيل. والواقع يقول إن ما وصلنا إليه اليوم من انحدار ليس فقط وليد اللحظة او نتيجة ظرفية سياسية او اقتصادية معينة، إنما هو نتيجة تراكمات تاريخية وثقافية عديدة ونتيجة أسباب متداخلة لا يتسع المجال هنا لذكرها جميعا، منها:
غياب ثقافة الحوار والتسامح بسبب ما مر به التاريخ العربي من مراحل فشل، مما جعل هذا المناخ الثقافي العام يتزلزل. فبعد نكسة 1967م ومع مرارة الهزيمة والاحباط العام بسبب الشعور بضياع القضية، وما تلاه من انتكاسات في واقعنا السياسي والاقتصادي، وتشققات في علاقاتنا الاجتماعية، صرنا أقل تسامحا مع الآخر وأكثر تعصبا لمعتقداتنا.
انتشار ثقافة دينية تقوم على النقل مع اغلاق الباب على العقل، مما اغلق قرونا من الانتعاش الفكري النسبي ومهد لقرون من الركود والجمود، صحيح حاولت معه مصر، في عشرينيات القرن الماضي، البحث عن تألق ثقافي من خلال مدرسة التنوير الحديثة، لكن هذه المحاولة منيت بالهزيمة لصالح قوى الرجعية، التي قادت المجتمعات الى حالة من الازدواجية والتناقضات ندفع جميعنا ثمنها الآن.غياب ثقافة النقد الذي بتنا ننظر إليه، في حالات كثيرة، وكأنه عمل تخريبي، ان لم نقل إنه خيانة تستهدف الوطن او تستهدف النسيج المجتمعي، في الوقت الذي كان فيه هذا النقد ولا يزال أهم وسائل الارتقاء بكل النظم والمؤسسات والأفكار والممارسات.
غياب ثقافة الاختلاف باعتباره قاعدة انسانية وسنة من سنن الحياة وحقا يكفله القانون، بل اصبحت الثقافة السائدة، عبر السنوات، هي ثقافة الاقصاء التي تقسم الناس إلى نحن وهم، وتجعل نحن دائما على صواب وهم دائما على خطأ.
انهيار منظومة القيم والأخلاق وتراجع النظم التعليمية ما أدى إلى استمرار ظاهرة الأمية التي لاتزال تسجل نسبا يخجل لها الجبين في العالم العربي، بينما طغى الجانب التقليدي على المناهج التعليمية فلم تتحرك لاحتواء المتطلبات المواكبة للعصر الحديث ولسوق العمل الذي تغلب عليه التنافسية، لتكون النتيجة أنصاف طلبة وأنصاف خريجين وأنصاف متعلمين وسوقا شاسعة من البطالة.
لقد أسقطت الظرفية التي نعيشها ورقة التوت عن خوائنا الفكري، واثبتت فشل مشروعنا الحضاري الذي انتج هذا الكم من التناقضات والصراعات والاخفاقات، وأنتج معها مجتمعات تعاني الانفصام وشبابا في حالة اغتراب ويأس مستمر بدأ يعبر عنه بسلوك بات يهدد الأمن والاستقرار المجتمعي.
واذا أردنا الخروج من هذه الحالة، فما علينا سوى مواجهة الاسباب بجرأة وحسم. واولى المواجهات يجب ان تكون مع الذات الثقافية العربية التي يجب تشخيص عيوبها، ونقد مكوناتها، وتحديد نواقصها، حتى نتمكن من صياغة خطاب ثقافي جديد قادر على بناء شباب سليم ومجتمعات متوازنة.
لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى رابط دائم: