فى هيروشيما اليابانية، يمتليء ميدان السلام فى كل صباح بالمئات من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات والسائحين من مختلف أنحاء العالم للوقوف دقيقة صمتا واحتراما أمام النصب التذكارى لضحايا القنبلة النووية.
الوجوم على جميع الوجوه، فلا أحد يضحك، ولا أحد يرفع صوته، ولا أحد انهمك فى التهام سندويتش أوانشغل فى البحث عن كوب شاى أو كيس لب، فالمكان له هيبته، والذكرى لها احترامها، والضحايا الذين سقطوا بالآلاف بين قتيل ومصاب ومشرد ومريض بالتلوث الإشعاعى بقيت ذكراهم، وبقيت معها دروس التاريخ، وكل مشاعر الإجلال، والتخليد، والتمجيد.
فى متحف هيروشيما، يتزاحم المئات، لمشاهدة آثار ما خلفته الضربة النووية على تلك المدينة من أطلال وركام وأشلاء وبقايا ملابس عسكرية، ومدنية، وأجزاء محطمة من قطع حربية، وصور فوتوجرافية وفيديوهات وثائقية تقطع القلب، وفى أكثر من نقطة داخل المتحف، ساعات حائط قديمة، توقفت عقاربها عند الساعة الثامنة والربع من صباح يوم 6 أغسطس 1945، توقيت إلقاء القنبلة النووية على تلك المدينة الهادئة، والتى راح ضحيتها 140 ألف قتيل.
ولكن الفقرة الأروع فى زيارة المتحف، محاضرة مدتها ساعة يستمع فيها الزائرون إلى شهادة أحد الناجين من القنبلة النووية، يروى فيها رجل يابانى مسن باحترافية شديدة تمزج بين العاطفة والمعلومة كل ما حدث بالتفصيل فى ذلك اليوم، (من طقطق إلى سلامو عليكو)، يعنى من لحظة وصوله إلى مدرسته، ودخوله إلى الفصل، وجلوسه بجانب أقرانه، وحتى سماع دوى انفجار كونى مروع صم آذان جميع التلاميذ وأفقدهم الوعي، قبل أن تتحول المدرسة إلى بركة دماء ومستنقع أشلاء وحطام.
يتكلم الرجل، والحاضرون يرتجفون، وشعر رأسهم ينتصب، وكأن كل واحد منهم طفل يستمع فى ظلمة الليل إلى قصة أمنا الغولة أو أبو رجل مسلوخة، مع الفارق، أن الرجل كان يتحدث عن وقائع حدثت بالفعل، وأهوال تفوق ما تقدر عليه أمنا الغولة ذات نفسها!
أبكانا الرجل، ولكنه كان ممتعا، وأدهشنا لأنه كان يتحدث بكل فخر وكبرياء عن مدينة تدمرت، وبلد انهزم فى الحرب، ولا نعرف لو كان يتحدث عن انتصار فى حرب، ماذا كان سيقول.
أقول هذا، ونحن نستعد فى مصر للاحتفال بذكرى حرب أكتوبر المجيدة التى أوشك جميع أبطالها للأسف الشديد على الاختفاء من حياتنا، عسى الله أن يمتع من تبقى منهم على قيد الحياة بالصحة والعافية.
فى اليابان، يسترجعون تاريخهم، ونخبنا الموقرة لا تزال منقسمة حول ما إذا كان أكتوبر نصرا أم نصف نصر أم ربع نصر، حرب تحرير، أم حرب تحريك!
يخلدون أبطالهم، وكتابنا الجهابذة لا يزالون فى جدال حول بطل أكتوبر الحقيقي، وهل هو السادات أم الجمسى أم الشاذلى أم عبد الناصر أم مبارك!
يكرمون ضحاياهم، وفنانونا ومثقفونا لا تهمهم سير وبطولات شهدائنا فى أكتوبر والآن، بل إنهم مشغولون عنها بمهرجانات العراة والسكاري، وبكوميديا القلش، وبأدبيات التجريب والتغريب والجنس والشذوذ والكيف والعشوائيات.
يعرضون تاريخهم للعالم، فى الوقت الذى يستحيى فيه إعلاميونا العظام من الحديث عن معجزات الغاز وفيروس سى وأنفاق القناة، خوفا من أن تتهمهم كتائب الثورجية ودعاة الفكرالألتراسواى بالنفاق والتطبيل.
يعلمون أبناءهم وأحفادهم تاريخ وطنهم الحقيقي، وكيف عانى أجدادهم ويلات الحروب والدمار، والأخطاء أيضا، فى الوقت الذى لا ينشغل فيه بال أبنائنا وأحفادنا سوى بفضائح الأهلى والزمالك ومرتضى والكاف وعين شمس، ويصفقون ويهللون لشتيمة الأب والأم فى المدرجات، باعتبارها من الأعمال الثورية التى لا يجب مقارنتها ببطولات الجندى المصرى فى أكتوبر!
هل هكذا تحتفل أمة يفترض أنها أم الدنيا بأعظم انتصار فى تاريخها، فى الوقت الذى يحتفل فيه أصدقاؤنا فى اليابان بيوم هزيمة ودمار؟
لماذا لا نستفيد ممن بقى من قادتنا وأبطالنا فى أكتوبر العظيم لإلقاء محاضرات مماثلة فى المدارس والجامعات طوال الشهر؟
ولماذا لا تكون تلك المحاضرات والدروس إجبارية ونفرضها فرضا على جيل تربى للأسف على أخلاق يناير والألتراس و6 أبريل، واعتاد شتيمة مصر، ولا يعرف معظمه يعنى إيه رجولة، ويعنى إيه تضحية، ويعنى إيه تقشف، ويعنى إيه وطن، ويعنى إيه مصر؟
ألا يكفى أن الفرص الوحيدة لنستمع لأحاديث قادة أكتوبر الممتعة فى الفضائيات أو فى الإذاعة يفسدها رغى المذيعين، ويبترها الوقت والفاصل الإعلانى والموجز، بطريقة مهينة؟
سمعونا وسمعوا الجميع أبطال شهادات أكتوبر، قبل فوات الأوان، فسوء الخلق ينهش فى لحم مصر هذه الأيام قطعة قطعة!
لمزيد من مقالات ◀ هانى عسل رابط دائم: