شئ مثير حقا أن يعقد منتدى عن كامب ديفيد الآن بعد 40 عاما، للبحث فيما إذا كانت اتفاقية سلام عبقرية أو اتفاقية خنوع واستسلام، وتفاجأ بأن معظم الحاضرين من الشباب والفتيات ممن لم يعاصروا كامب ديفيد نفسها، ولا ما قبلها، ولا ما بعدها أيضا بعشر سنوات ربما!.
.. هكذا هي الصفحات العظيمة، ولا يقصد بـ»العظمة» هنا توصيف إيجابي بالضرورة لهذا الحدث، بقدر ما يقصد منه مكانة الحدث من التاريخ المليء بمنعطفات وقرارات وأحداث، بل وحروب، تذهب وتروح، ولا يتذكرها أحد!.
في مقر الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أقيم منتدى نقاشي رفيع المستوى بعنوان «كامب ديفيد بعد 40 عاما»، استمد رفعة مستواه من منظميه، والمشاركين فيه، وثراء المناقشات، وتاريخية الحدث موضع النقاش.
أقيم المنتدى على يوم واحد، وأشرف على تنظيمه الدكتور بهجت قرني أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وشارك فيه كل من : الدكتور نبيل العربي وزير الخارجية الأسبق والأمين العام السابق لجامعة الدول العربية، ونبيل فهمي وزير الخارجية السابق، والبروفيسور ويليام كوانت الأستاذ في جامعة فيرجينيا الأمريكية وعضو مجلس الأمن القومي الأمريكي الأسبق، ومساعد كارتر في المفاوضات، والدكتورة بسمة قضماني المؤسس المشارك والمدير التنفيذي لمبادرة الإصلاح العربي، والبروفيسور شبلي تلحمي رئيس وحدة أنور السادات للسلام والتنمية بجامعة ميريلاند.
بدأ المنتدى برسالة مكتوبة وجهها الرئيس الأمريكي جيمي كارتر إلى المشاركين في هذا الحدث، بوصفه وسيط السلام بين مصر وإسرائيل في كامب ديفيد، وكانت الكلمة الافتتاحية لفرانسيس ريتشاردوني رئيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة، والتي رحب فيها بالحاضرين، وتحدث باقتضاب عن أهمية إجراء مناقشة أكاديمية متعمقة بكامب ديفيد بعد 40 عاما، لأن آثارها ما زالت ممتدة.
أكد كارتر في رسالته أن السلام الناتج عن كامب ديفيد ما زال حيا ولم يمت، ولم يتعرض للاختراق من الجانبين، ولكنه أعرب في الوقت نفسه عن تشاؤمه إزاء فرص إحلال السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين الآن، وكان من أبرز ما تضمنته الرسالة أيضا أن الرئيس الراحل أنور السادات كان مبالغا بتكرار القول إن 99% من أوراق اللعبة في يد الأمريكيين.
عقد المنتدى على جلستين، أعقبتهما حلقة نقاشية مفتوحة مع ممثلي وسائل الإعلام، فكانت الجلسة الأولى بعنوان «عملية صناعة كامب ديفيد .. مشاهد من الداخل»، وشارك فيها نبيل العربي ونبيل فهمي وويليام كوانت، بينما كانت الجلسة الثانية بعنوان «نتائج كامب ديفيد إقليميا ودوليا»، وشارك فيها شبلي تلحمي وبسمة قضماني ود. بهجت قرني.
في الجلسة الأولى، تركز الحديث على شهادات الحاضرين على كواليس ما دار خلال فترة مفاوضات الـ13 يوما التي سبقت التوقيع على الاتفاقية، التي وصفها بهجت قرني بأنها كانت أشبه بـ «قصة بوليسية مثيرة» إذ لم تتضح نتائجها إلا في اللحظة الأخيرة، وشهدت المفاوضات تهديدات بالرحيل، لدرجة أن مصر هددت بالانسحاب أربع مرات، مقابل ثلاث مرات لإسرائيل، وكشف عن أن الأمر وصل إلى درجة أن الجانب الأمريكي بدأ يصيغ بيانا يعلن فيه فشل المفاوضات لتسليمه لكارتر، كما كان وزير الخارجية الأسبق محمد إبراهيم كامل ثاني وزير مصري يستقيل خلال عام بسبب المفاوضات.
وفي حديثه عن كامب ديفيد، قال نبيل فهمي إنه ليس مهما استعراض آراء من يؤيد الاتفاقية ومن يعارضها، ولكن قال إنه يتعين علينا النظر إلى النتائج والحقائق على أرض الواقع التي أسفرت عنها كامب ديفيد.
وأشار إلى أن قبول إسرائيل للذهاب للمفاوضات لم يكن مفاجئا رغم ترددها، فقد كانت تريد التوصل إلى سلام مع مصر.
وأضاف أن كارتر كان أول رئيس أمريكي يتحدث عن وطن للفلسطينيين، وكان مهتما بحل شامل للأزمة، وليس حلا جزئيا.
ومن جانبه، قال نبيل العربي إنه لا يمكن الحفاظ على السلام إلا إذا كان سلاما عادلا، وتجادل العربي أكثر من مرة - بكل ما لديه من خبرات تفاوضية - خلال المنتدى مع ويليام كوانت حول إشكالية ما إذا كانت المعاهدة قد تضمنت ما يفيد بحماية حق الفلسطينيين في أرضهم وفي تقرير مصيرهم بموجب قرارات الشرعية الدولية، وأيضا حول وضع القدس، وما إذا كانت المفاوضات قد تطرقت إليها أم لا، غير أن العربي أكد في مداخلات أخرى خلال المنتدى أنه على الرغم من اقتناعه بأن كامب ديفيد أنتجت السلام لمصر، ومهدت الطريق لآخرين مثل الأردن، ولكن المفاوضات أديرت بشكل سيئ، إذ لم تضغط أمريكا بالشكل الكافي على الإسرائيليين، لأن مصر كانت ترغب في انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي المحتلة قبل 1967، لدرجة أن هذا ما دفعه لمطالبة الرئيس السادات بعدم التوقيع على المعاهدة.
أما ويليام كوانت، فتحدث باستفاضة في الجلسة الأولى عن كواليس المفاوضات، واصفا اليوم الأخير تحديدا قبل التوقيع بأنه كان «دراميا»، لأنه لم يكن هناك أي طرف يتوقع التوصل لاتفاق، خاصة أن الخطوات الدبلوماسية التي سبقت ذلك كانت قد قطعت شوطا قصيرا للغاية.
وكشف النقاب عن أنه كانت هناك رغبة في أن تشمل المفاوضات الجبهات الفلسطينية والسورية والأردنية بالتوازي، ولكن هذه الأطراف لم تحضر، والفلسطينيون بالذات لم يحضروا بسبب الضغوط السورية، وحتى على الجانب الإسرائيلي كانت هناك مشكلة لدى الجانب الأمريكي، إذ لم يكن مناحم بيجن رئيس وزراء إسرائيل آنذاك معروفا بشكل جيد لنا، فقط كنا نعرف توجهات حزبه، وكان بيجن يؤمن بأن كل أرض فلسطين ملك لإسرائيل.
وعن السادات، قال كوانت إنه لم يكن واثقا في الرئيس السوري حافظ الأسد، وكان مقتنعا بأنه لا يجب على أي رئيس عربي آخر أن يفرض عليه مسارا محددا، ومن هنا اقتنع كارتر بأنه لو أراد السادات سلاما منفردا لاستجبنا له، ولذلك كان الحل الوحيد هو الجمع بين السادات وبيجن فقط.
واعترف كوانت بما قاله العربي بأن أمريكا ارتكبت أخطاء، ولكنه أشار إلى أن الأمر بالنسبة للولايات المتحدة احتاج إلى إعداد شاق وطويل، لأنها لم تكن لعبة هواة، وفي هذا الصدد، اعتبر كوانت بأن كارتر هو واحد من بين أبرع ثلاثة مفاوضين في تاريخ الولايات المتحدة، بجانب هنري كيسينجر وجيمس بيكر.
وقال العربي لاحقا إن الإسرائيليين عرف عنهم إضاعة الوقت وعدم الوفاء بالوعود أو الوثائق، بدليل أن كامب ديفيد احتاجت إلى سنوات لتنفيذها بالكامل حين موعد الانسحاب من طابا.
وفي الجلسة الثانية، تناول المشاركون وجهتي النظر المتعارضتين ما بين مؤيدي ومعارضي الاتفاقية، فقالت بسمة قضماني، متحدثة عن وجهة النظر الثانية، إنه إذا كانت هناك أي ميزة في كامب ديفيد فهي أنها نجحت في كشف «المنافقين» .
وعن الموقف السوري تحديدا، كشفت قضماني أن السادات كان مهتما بالفعل بالحصول على تأييد سوريا، وزار دمشق أكثر من مرة والتقى بالأسد، ولكن الأخير قدم إجابة غامضة، ولم يتحدث عن خطوط حمراء أو قطع علاقات، ولكنه انتظر حتى ذهب السادات إلى إسرائيل، ثم إلى كامب ديفيد، وبدأ في تكوين جبهة «الصمود والتصدي» مع العراق وليبيا واليمن الجنوبي آنذاك ومنظمة التحرير الفلسطينية، فبدا الأسد وكأنه زعيم جديد للعالم العربي بعد عبد الناصر، ولاحقا، احتدت المنافسة بين سوريا والعراق على هذه الزعامة، ولكن المفارقة أن كل دول هذه الجبهة بعد 40 عاما من كامب ديفيد انهارت!
أما شبلي تلحمي فقال إنه لا يجب أن نتحدث عن كامب ديفيد من زاوية الأشخاص، ولكن من زاوية النتائج أو السياسات الناتجة عنها، مشيرا إلى أن إسرائيل خططت طويلا لسلام منفرد مع مصر، بدليل أنها في كل حروبها العربية كانت تستولي على سيناء، بحيث إذا تفاوضت معها يكون التفاوض بعيدا عن أي أرض فلسطينية.
وأضاف أن الاتحاد السوفيتي هو الاسم الذي يجب أن نضعه في حسباننا عند الحديث عن ملابسات كامب ديفيد، قائلا : لا ننسى أن كامب ديفيد وقعت في أوج الحرب الباردة، والاتحاد السوفيتي وعلاقاته الاستراتيجية مع مصر أعطت مصر قوة لها في هذه المفاوضات، لحرص أمريكا على كسب ودها على حساب السوفيت، وهذا من مصلحة الأمن القومي الأمريكي، وفي الوقت نفسه، السادات كان يريد علاقات قوية مع أمريكا لزيادة شعبيته في الداخل.
وقال أيضا «الحرب الباردة وحرب أكتوبر ورقتان لم تستفد مصر منهما في كامب ديفيد، ومصر لم تطلب كثيرا»، وهو ما رد عليه أكثر من متحدث ضمنيا بأن السادات كان همه الأول استعادة الأرض.
رابط دائم: