على مدى السنوات الأخيرة، شهدت دول عربية عمليات تشييد واسعة للمنشآت والبنى التحتية، من طرقات وسكك حديدية وجسور ومطارات وغيرها.
وقامت دول أخرى ببناء مدن جديدة تستوعب زيادة تعدادها السكانى بكل ما تستلزمه من مرافق حيوية. فيما عملت دول أخرى على تشييد المبانى الشاهقة والأحياء الراقية التى تفوق فى مستواها ما هو موجود فى معظم الدول المتقدمة، بحيث إننا بتنا نشهد نهضة عمرانية حقيقية متجددة يشعر بها الزائر فى كل زيارة له لأحدى هذه الدول.
لكن، وسط غمرة البناء هذه، لا أعلم اذا كان سقط سهوا او عمدا عن ذهن صناع القرار فى بلداننا العربية، ان كل نهضة عمرانية لا تكتمل إلا بنهضة بشرية تقوم على بناء الإنسان على أساس صحيح وسليم يرتكز إلى العلم والفكر والتنوير الذى يحرر عقله من الجهل والتخلف والازدواجية، ويزرع فى سلوكه منظومة القيم والأخلاق واحترام الذات والآخر، ويوفر لحياته، فى مختلف أطوارها صحة وتعليما وشغلا وضمانا اجتماعيا، بما يضمن للإنسان حياة كريمة.
لعل الكثير من الظواهر السلبية التى تعانيها مجتمعاتنا العربية، من تطرف أو تحرش وفساد وانحلال، هو نتيجة طبيعية لكون الرهان من البداية لم يكن على بناء الإنسان، والنتيجة هى هذه الفجوة، التى باتت تكبر أكثر وأكثر، بين المواطن ومحيطه الخارجي. فأصبحنا نعاين كيف أن الدولة تبنى والمواطن يدمر، وكيف أن الدولة تسن قوانين والمواطن يتجاهلها، لأنه يعتقد انه غير معنى بهذا البناء، أو أن هذه القوانين لا تعبر عنه او لا تتوافق مع الواقع الذى يعيشه.
وبنظرة سريعة على نظافة شوارعنا، وحالة أغلب أقسام مدارسنا العمومية، ووضعية الساحات والميادين العامة، ووضعية وسائل النقل العمومي، التى يتم تخريبهما عمدا، إما انتقاما او حتى غباء. وبنظرة أيضا الى صور الفساد المستشرى فى جسد المجتمع، وازدياد عدد الجريمة بكل أنواعها وأشكالها، وتفاقم حالات التحرش الجنسى بصورة غير مسبوقة، مع ازدياد تطرف المجتمع وميوله المتزايد الى العنف، كل ذلك يظهر كم التناقضات والمشكلات التى نعيشها، مما يستدعى مراجعة أولوياتنا واستراتيجياتنا ومفهومنا عن التنمية. من أراد ان يبنى حضارة صحيحة، فعليه ان يبنى إنسانا سليما وفاعلا.
ولذلك لابد من تأهيل هذا الإنسان باعتماد خطط وطنية تقوم على تطوير مناهج التعليم، مما يسمح بإنتاج علماء ومفكرين، وليس فقط حفظة ومقلدين، ثم التنشئة الجيدة على أساس روح المسئولية، وزرع مفهوم قيمة العمل والإنتاج، مع تربية الاجيال على ثقافة العطاء بدلا من اعتياد الأخذ. ثم حفظ منظومة القيم والأخلاق داخل البيت وفى المدرسة والجامعة والشغل، وداخل المساجد وعلى صفحات الجرائد وشاشات التلفاز وما يمكن أن تبثه من برامج وأفلام يكون لها التأثير الكبير على أجيال بكاملها. بالإضافة الى التربية على الصدق والإخلاص والأمانة.
هنا، لابد من التذكير بما قام به الصينيون القدامي، عندما قاموا ببناء سور الصين العظيم كنظام دفاعى متكامل مؤلف من العديد من الثكنات والحصون بالإضافة لأبراج المراقبة، وكحصن منيع يصعب على العدو اختراقه لشدة كثافته ولا تسلقه لشدة علوه، لكنه بالرغم من كل ذلك لم يقم بمهمته فى الدفاع عن حدود الصين ضد هجمات المغول والبربر، بل تم اختراقه فى العديد من المرات، وفى كل مرة لم يكن العدو فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه بل كانوا يُرشون فى كل مرة الحراس ويزحفون عبر الباب، فقد انشغل الصينيون القدامى ببناء السور ونسوا بناء الإنسان الصينى على الصدق والأمانة والإخلاص.
يجب ان نعترف بأننا لم نعد نمتلك لا ترف الوقت ولا ترف التردد، فمعالم الخلل داخل مجتمعاتنا بدأت تطفو على السطح بشكل كبير ومقلق، ولابد من صياغة حلول جذرية، تتعدى فى قوتها وحسمها القوانين الزجرية، التى تبقى فى معظم الأحيان حبرا على ورق. نحن على ابواب الدخول المدرسي، لابد من الاهتمام بالإنسان فى وطننا العربي، ومنحه فرصة ليكون متعلما، اولا، ومسئولا ومنتجا، ثانيا، وراعيا وواعيا بما له وما عليه.
فالإنسان هو محور كل تقدم حقيقى ومستدام، فمهما أقمنا من مبان ومنشآت وعمارات شاهقة.. ومهما مددنا من جسور وشيدنا من طرق وقطارات سريعة، فإن ذلك كله يظل مجرد كيان مادى لا روح فيه، بل الروح تأتيه من الإنسان، وهو الإنسان الذى يضفى على هذا الكيان قيمة او يرفعها عنه. فالإنسان وحده قادر بثقافته ودرجة وعيه وقوة إمكانياته على الحفاظ على هذه المنشآت وتطويرها والتقدم بها، وهو الذى يمكن أن يكون السبب، ايضا، فى تدميرها وتشويه معالمها وإفقادها رمزيتها وقيمتها.
إن الإنسان هو صانع الحضارة الحقيقي، وهو السبب الأساسى لرقى الدول والمجتمعات وتقدمها. والرهان الحقيقي، الذى كنا واعين بأهميته فى الماضى البعيد، هو بناء الإنسان، فهو محور الارتكاز الذى تدور حوله وتستند إليه التنمية الشاملة التى نتوق إليها جميعا.
لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى رابط دائم: