تحققت نبوءة محلب!
اعتدنا على القبح، وانتهى الأمر.
أصبحت القمامة جزءا من حياتنا، ومن مجتمعنا، ولن تختفى من شوارعنا، لا الآن، ولا بعد عام، ولا بعد عشرين سنة، لا بتصريحات وردية، ولا بخطة قومية، ولا بمنظومة، ولا بجامع القمامة التقليدي، ولا بعقد وهمى بين المحافظة وشركة نظافة، فكل ما سمعناه على مدى ثلاثين سنة أو أكثر لم يكن سوى كذب فى كذب، أو فشل فى فشل.
القضية أن القذارة أصبحت سلوكا عاما، وفلسفة، وثقافة مجتمع، ومشكلة خرجت عن السيطرة مثل مشكلات كالميكروباص والتوك توك.
القاذورات صارت شهادة حية على إخفاق الجميع، لا أستثنى أحدا : المواطن، المحليات، الحكومة، الشركات المختصة، البرلمان أيضا، فنحن أمام إخفاق دولة بأكملها فى حل مشكلة تعد بلا أدنى مبالغة «عارا» على كل من يعيش على أرض هذا البلد، وعنصر طرد للسائح والمستثمر، ومصدر كآبة ومرض وسوء خلق للبنى آدم نفسه.
اعتدنا القبح، فلم يعد مشهد أكوام الزبالة فى الشوارع وعلى الأرصفة يحرك فينا ساكنا، بل أصبح «ماركة مسجلة» فى أغلبية مدننا وقرانا، وعلى رأسها القاهرة، العاصمة، التى تستحق بجدارة لقب «....» مدينة فى العالم، وضع بين القوسين ما شئت!
اعتدنا القبح، فلم يعد مشهد سائق السيارة الذى يفتح شباك سيارته ليبصق أو ليلقى قشر لب أو كيس أكل أو منديلا ورقيا على أرض الشارع منظرا غريبا أو شاذا يستحق أن يدفعنا لإيقاف صاحبنا وتوبيخه، بل وضربه قلمين!
اعتدنا القبح، فلم يعد يستفزنا مشهد الكناس التقليدى وهو يقف على الطرقات وأعلى الكوبرى بملابسه المتسخة مراقبا للسيارات الفارهة وممثلا لعرض مسرحى سخيف يمزج فيه بين المسكنة وادعاء التعب والمرض لزيادة الغلة، وهو فى النهاية يتقاضى راتبا من جيوبنا مقابل «زيرو» عمل.
اعتدنا القبح، فلم يعد مشهد صاحب المحل الذى يكنس الغبار والقمامة من أمام دكانه ويلقى بها فى نهر الطريق أو أسفل السيارات، مثيرا للغضب، وكأنه ونحن نفترض أن قوة خفية ما ستأتى ليلا وتجمع هذه الزبالة نيابة عنا وعن البيه الكناس المشغول فى التسول أو الكنس بمقابل لمن يدفع فقط، وتحت مرأى ومسمع رؤسائه فى شركة النظافة أو فى الحي أو في المحافظة!
اعتدنا القبح، فلم تعد ربة المنزل التى تفتح نافذة منزلها وتلقى بكيس قمامة كبير فى عرض الشارع تفعل ذلك ليلا والناس نيام، بل باتت ترتكب جرمها نهارا جهارا، بلا أدنى خجل، بل وربما وسط تصفيق أهل الحتة الذين أفتوها بأن الحكومة تسرقها، ومن حقها معاقبتها!
اعتدنا القبح، فلم تعد الكلاب والقطط والفئران وغيرها من حيوانات الشوارع تثير الفزع والضجر، ولم تعد تفلح معهم أى محاولة لاصطيادها أو قتلها، فلا الحى يقوم بعمله، ولا هواة الفشخرة الكذابة من أدعياء حقوق الحيوان سيتركوك لتتخلص منها بأى طريقة كانت، فالمنظرة مقدمة على المصلحة العامة، والنظافة فى ذيل الأولويات، المهم الرفق بالحيوان!
اعتدنا القبح، فلم تعد مخلفات الباعة الجائلين وباعة الأرصفة تضايقنا، فهم غلابة، ومن حقهم أن يعيشوا ويتناسلوا ويتكاثروا ويقضوا حاجتهم ويعيشوا حياتهم الطبيعية فى الشوارع ويزيدوا من بؤس حالتها، أما نحن فلنضرب رؤوسنا فى الحائط.
اعتدنا القبح، فلم تعد رائحة الخبائث أسفل الكباري، وفى أنفاق المشاة، تثير أى غضاضة، فلا أحد يكترث، والكل مشارك فى الجريمة.
اعتدنا القبح، فلم يعد مشهد المخلفات والحيوانات النافقة فى النيل يصيبنا بالغثيان.
اعتدنا القبح، حتى أصبحت أى جهود ذاتية أو يائسة لتنظيف شارع أو تجميل حديقة، أو لتوبيخ من يلقى القمامة، هى التى تثير السخرية، وليس العكس!
اعتدنا القبح، حكومة وشعبا، فالمواطن يلوم الحكومة، والحكومة تلوم المواطن.
المواطن يرى أن جمع القمامة مهمة الحكومة، والحكومة تتهم المواطن بعدم التعاون.
المواطن يطلب جمع القمامة من أمام منزله، والحكومة تطالبه بفصل المخلفات أولا، والمواطن لا يستجيب، والدولة تعاقبه فتترك له زبالته.
المواطن يطالب بصناديق قمامة فى الشوارع، والحكومة تقول إن الصناديق التى تضعها تتعرض للسرقة!
الشركات تقول بنجمع كام مليون طن يوميا, والمواطن يقول : وأنا مالي.
المواطن المصرى متدين بطبعه، والنظافة من الإيمان، والإيمان قمة الدين، ومع ذلك، المحصلة صفر، والحديث فى هذا الموضوع أصلا يبدو بلا فائدة، طالما أن جميع الأطراف تبدو سعيدة بما وصلنا إليه، فلا المواطن حريص على نظافة بلده، ولا الحكومة تفعل شيئا لحل المشكلة.
المهم إن عندنا هيئة وكناسا وشركات ومنظومة، ومواطنا متدينا!
لمزيد من مقالات ◀ هانى عسل رابط دائم: