تموج الحياة بأحداثها المتلاحقة دون توقف، كل منا يخطو فى طريقه، تارة نعرف الخطوة القادمة أين يكون مستقرها، وتارة ضيق الأفق، وانحسار مستوى الرؤية، بحكم محدوديتها، فأنت لا تستطيع رؤية كل الزوايا وأبعادها فى الوقت نفسه، يكونان عاملين لأن تصبح الخطوة القادمة غير معروفة.
ما بين الخطوتين، مسافات قد تكون طويلة جدا، بمعنى أن الخطوة التى نعرف أين نضعها، قد تحدث أثناء سيرك فى طريق ما، أما الخطوة التى لا نعرف موضعها، قد تكون متعلقة بقرار معين، على وشك أن تأخذه ولا تملك من اليقين ما يعينك على اتخاذه بالشكل المناسب، ولكن لابد من الاختيار! والعكس صحيح أيضا، قد تتتابع الخطوتان، وتكون المسافة بينهما قصيرة، وهنا الأمثلة أيضا كثيرة، منها وأنت تسير فى طريقك، قد يستلزم الأمر تغيير اتجاهك، وأمامك عدة بدائل، وأنت لا تعلم أفضلها.
ليظل الأمر المؤكد، أن هذا الحال يتكرر معنا يوميا، دون توقف، ولكن هذه المقدمة الغرض منها تسليط الضوء على ما نقرره بشأن غيرنا، خاصة أبناءنا، فمن لحظة أن يرزقنا الله بهم، ونحن نقرر لهم كل ما يخصهم من مأكل ومشرب وملبس، وتعليم، إلى أن يصلوا لسن يستطيعون فيها تقرير مصيرهم، واختيار قرارهم. وهنا تحدث المفارقات، منذ أيام قليلة، دار نقاش بينى و بين ابنى الأصغر صاحب الأربعة عشر ربيعاً، حول بعض الأمور، طال النقاش، وجاهدت لإقناعه بوجهة نظرى، وفشلت، وكنت أمام اختيارين، الأول الإصرار على رأيى، أو التمسك بفريضة الحوار وآلياتها التى تُحتم وصوله لنهاية منطقية، وخروجه بشكل عادل بالوصول لنقطة التقاء بين الطرفين، وانحزت للاختيار الثانى، وآمنت بأنى لم استطع إقناعه بوجهة نظرى، واللوم هنا يقع على عاتقى.
ووجدتنى أعود بذاكرتى إلى أكثر من ثلاثة عقود، وقتها كنت فى مثل عمره، متذكرا كيف كان الحوار بينى وبين أبى بارك الله فى عمره، كنت أنصت إليه بكل حرص وانتباه، فقد كان مرجعى الأول وملجئى، فكلنا فى هذه السن، نُصاب بنهم شديد للحصول على المعلومات المتعلقة بكل أوجه الحياة، فكنت أسأل و كان يجيب، وكنت دائما مرتبطاً به، أراه قدوة و مثلا أعلى، يمتلك من المقومات والقدرات ما يجعلنى استند عليه، وأنا مطمئن تماما، حتى فيما يتعلق برؤياى ونظرتى لكثير من الأمور، كانت بصمته تثقلها، وتدثرها.
قلما كنت أجد أن قراراته غير صائبة، إلا التى كانت تتعارض مع رغباتى القليلة مثل طلبى الذهاب مع أحد الأصدقاء لمكان يبعد عن بيتنا قليلاً، ويُقابل بالرفض لخوفه على، فقد كان محيط حياتى بسيطا، يدور حول مدرستى، وضرورة الاجتهاد فى دراستى لأحقق تفوقا يمكننى من الالتحاق بالجامعة باعتبارها بوابة العبور لعالم متميز، يستطيع فيه الإنسان بناء نفسه وتكوين ذاته بشكل رائع.
لم يكن نمط الحياة متسارعا كما هو الآن، كان التواصل بين الناس ملموسا، حتى خطوط التليفونات كانت قليلة، فإذا أردت التواصل مع شخص آخر، بديلك الأوحد هو لقاؤه، وكان السبيل للحصول على المعلومات، الذهاب للمكتبات والبحث فى مجلداتها، وهو جهد يعقبه شعور بسعادة الفوز بها. أما اليوم، وبعد كل هذه السنوات، ما الذى تغير؟
ظهرت وسائل التواصل الاجتماعى، من فيسبوك وتويتر و انستجرام، .. ألخ، توحشت الشبكة العنقودية المسماة بالإنترنت واتسعت لكم هائل لا حصر له من المعلومات، وأضحى الولوج لها بلمس شاشة الموبايل، تستغرق لحظات، وتباعد الناس بدرجة واضحة، فرسالة يصدرها هاتفك للأصدقاء أو الأقارب تغنى عن اللقاء وتكفى. حتى أفراد الأسرة الواحدة شغلتهم مظاهر الحياة البراقة، وبات لكل منهم عالمه الخاص، فالآباء لهم نمطهم واهتماماتهم، التى تختلف بالتبعية عن اهتمامات الأبناء، الذين يرون أنهم جيل متميزون بما يملكونه من أدوات متطورة كلياً عن الأجيال السابقة.
بما يعنى أنهم يستطيعون امتلاك خبرات متنوعة، دون اللجوء للأب أو الأم، حتى نمط تربية الأبناء، اختلف عن نمط تربية آبائنا لنا، قديما كان هناك وقت طويل للتواصل الحقيقى الفاعل فكريا ومعنويا، بالشكل الذى يسمح بوجود حوارات ممتدة، ما أن ينتهى أحدها، إلا ويبدأ غيرها.
اللهث خلف توفير كل مستلزمات الحياة العصرية لأولادنا، أوجد مسافة بيننا وبينهم، مسافة، كانت سببا فى وجود اختلافات فى وجهات النظر، قد يشعر أحدنا بأنها حادة، ويشعر آخر أنها طبيعية فى سياقها المرتبط بنمط العصر. إلا أن المؤكد بأنها تتفاوت بقدر التقارب أو التباعد بين الآباء والأبناء، نعم هم جيل مختلف يسرت له الحياة آفاقا رحبة من الاطلاع والمعرفة، كما تيسرت لهم سبل أعظم للتواصل فيما بينهم، من خلالها يتبادلون الحوارات وأيضا المعلومات و الخبرات، ولكن الموافقة على هذا النمط باعتباره من المسلٌمات التى لا يجوز الاقتراب منها أمر غير محمود العواقب. نحتاج إلى أن نأخذ إجازة من كل أشغالنا لنتواصل مع الأبناء، نقترب منهم نغوص فى وجدانهم، نحلق فى سماء أحلامهم، نحاورهم ونجادلهم، لنفهمهم، فسعينا لتربيتهم منقوص، ما لم يكتمل بالاقتراب منهم، لنشبع منهم، فقطار الحياة لا يتوقف، ولا ينتظر وقت فراغك الذى ربما يأتى متأخرا.
[email protected]
[email protected]لمزيد من مقالات ◀ عماد رحيم رابط دائم: