تتباين اللهجات والألسنة، وتتنوع الأعراف والتقاليد، وتتوزع المشاهد الاحتفالية، ورغم كل هذا الاختلاف بقى المسلمون، فى كل مكان، متشبثين بسنة النبى الكريم فى نحر الاضحية، وان لم يعودوا أوفياء، كما الماضي، لطقوس العيد وتقاليده الأصيلة الزاخرة بالمعانى الكبيرة، التى طالما كانت مصدرا للفرح وموعدا مع البهجة الجماعية، حينما كانت البساطة والعفوية هى من تتحكم فى المشاعر الإنسانية، وكانت تؤثر إيجابا على الأجواء العامة، قبل ان تتغير اليوم وتتحول الى الفردية والنظرة المادية.
بين عيد الأمس وأعياد اليوم مسافة زمنية ليست بالبعيدة، ولكنها بدأت تشهد اختلافات كبيرة على مستوى الطقوس والعادات، التى لايزال الآباء والأجداد متمسكين بها، ويحاولون المحافظة عليها وتوريثها للأجيال القادمة، التى بات لها ميول خاص وبدأ يسرقها الهجوم التكنولوجى من عمقها التاريخى والثقافى وثرائها الانساني، بعدما حلت المعايدات على مواقع التواصل الاجتماعى مكان فرحة اللقاء وتبادل الزيارات، وبعدما تحول العيد الى متعة فردية بدل السعادة الجماعية التى كان يتقاسمها الجميع.
بدأت صورة العيد تتغير، وبدأت تغيب اللهفة السابقة فى ترقبه بشوق وأهازيج الاطفال التى كانت تضج فى كل مكان، والاستعداد له بفرحة كان يشهد عليها ازدحام الاسواق والشوارع.. قبل ان تغيب هذه المظاهر ليس فقط بسبب الاكتساح التكنولوجي، ولكن، ايضا، بسبب تخمة الاكتئاب التى صرنا نعانى منها مع ضجيج الصراعات والحروب، وازدياد مصاعب الحياة وتعقيدها، ما انعكس على حياتنا اليومية وعلاقاتنا الاجتماعية واحساسنا ببعضنا البعض، حتى فى العيد. فى المغرب، ورغم التغير الحاصل فى صورة العيد وطقوسه، إلا أن أغلب المغاربة لايزالون يصرون على قضاء هذه المناسبة والاحتفال بها فى مسقط رأسهم مع الاهل، إذ يعمل الكثير من العمال والموظفين على أخذ اجازاتهم السنوية خلال هذه الفترة ليسافروا الى عائلاتهم، لقضاء العيد فى اجواء عائلية. أما اقتناء الاضحية، فهو من السنن التى لم تسقط من ذاكرة ومن صور تدين الشعب المغربي؛ فلا تستقيم فرحة المغاربة دون الظفر بكبش عظيم، حتى ولو اضطرها ذلك الى الاقتراض أو بيع ما يمكن بيعه. فى صبيحة العيد، تكتظ الطرقات التى تؤدى الى المساجد والمصليات؛ وهى أماكن مفتوحة بمساحات كبيرة يتم تخصيصها لصلاة العيدين (الفطر والاضحي)، بالمصلين من مختلف الاعمار وقد ارتادوا ألبسة تقليدية يغلب عليها الابيض، مما يضفى على المكان خشوعا فى صورة تشكل منظرا رائعا لا يتكرر إلا فى الاعياد الدينية. وبعد صلاة العيد تبدأ الزيارات العائلية، وإن كانت بدأت تقل عن ذى قبل، قبل ان يعود كل الى بيته ليباشر عملية الذبح؛ وفى المجمل تكون وجبة أول يوم العيد كبدة وكرشة، لتتنوع بعد ذلك عادات الأكل حسب كل منطقة. المثير فى أجواء العيد فى المغرب، أنه كان لكل منطقة خصوصيتها وطقوسها. ومن العادات التى كانت سائدة (وربما لايزال بعضها صامدا) فى الثقافة الحسانية المغربية (جنوب الصحراء)، الحرص على تقديم البخور والعطور للضيوف قبل انصرافهم، حيث إن اختيار أجودها والمباهاة بها يعد أمرا شائعا ومتداولا. كما ان العيد فى هذه المنطقة من المغرب يعد مناسبة احتفالية وطقوسية يختلط فيها الدينى بالأسطوري، وهو ما تجسده ممارسات من قبيل الفأل والرغبة فى العلاج، وتحصين الجسد والدفاع عن ملكيته عبر الاحتماء بطقوس مستعارة من الأدب الإثنوغرافي. وقبل ذبح الاضحية، يوضع القليل من الشعير الممزوج بالحناء فى فم الاضاحي، ويحتفظ بدمها الحار، ذى اللون الأحمر القاني، فى إناء صغير، حيث يسود الاعتقاد بأن هذه الممارسة تسهم فى تقوية التماسك الأسري. وغير بعيد عن مناطق الجنوب، وفى جهة مراكش بالتحديد، يأخذ الاحتفال بالعيد شكلا كرنفاليا؛ وإن كانت هذه العادات بدأت تختفى ايضا؛ حيث كان يعيش ساكنو هذه المنطقة أجواء ظاهرة فريدة، لاتزال المصادر والمراجع التاريخية والاجتماعية شحيحة جدا فى استقصاء جذورها والبحث عن دلالاتها كظاهرة وكسلوك ثقافى يظل من مكنونات الثقافة الشعبية المغربية. والحديث هنا عما يعرف بـ«بوجلود»، حيث يقدم مجموعة من الشباب على لبس فروات أضحيات العيد، وتقمص هيئتها، كنوع من تكريس أواصر التواصل ومقومات الفرجة. ويمر موكب »بوجلود« المكون من الاطفال والشباب، على البيوت بمختلف الاحياء وهو يؤدّى حركات بهلوانية طريفة مع من يلتقيهم من المارة والساكنة. وقد ربط العالم الأثنوبولوجى »وسترماك« هذا الكرنفال التنكرى بدلالة احترام الخصوبة والاحتفاء بالنماء والخير. واذا كان لكل منطقة فى المغرب طابعها الخاص، فالمفروض ان نحافظ على قيمة العيد وفرحته، وايضا عاداته الفريدة لما تشكله من موروث ثقافى وإحساس بتميز هذا اليوم عن باقى ايام السنة، فمجرد تلاشى هذا الاحساس يعنى ان يتلاشى معه جزء مهم من تراثنا، وعفوية عاداتنا، وتشابك علاقاتنا الاجتماعية التى بدأت تخيم عليها الرتابة والجمود. وكل عيد وكلنا بخير وتواصل انسانى واجتماعى لا يتأثر بعوامل الزمان ولا تكنولوجيا المكان.
> كاتبة مغربية
لمزيد من مقالات ◀ وفاء صندى رابط دائم: